هل تكون الشعبوية ظاهرة القرن الحادي والعشرين؟ أتكون من البدائل العديدة للاتجاهات الأيديولوجية في القرن الماضي، أم من روافدها وآثارها؟! الشعبوية مشتقة من الشعب، لغوياً ومعنوياً وتاريخياً. لكن من هو هذا الشعب الذي يدّعي الشعبويون الدفاع عنه؟ هل هو كتلة واحدة مُتراصة؟! هل هو تعددية مفتوحة حتى الفوضوية؟ هل هو الجماعات المدنية؟ هل هو الجماعات الإثنية والثقافية! أم هو الشعب بصفته الجزء المهمش والمتروك والمُهمل، أي الطبقات الشعبية؟
إنها صيغٌ تنبثق من أوضاع الناس وظروفها وغالباً غير منفصلة، فالشعبويون يقولونها ويطرحونها هنا وهناك كلها في آنٍ واحد. في الحالة الأولى يرى هؤلاء الشعبويون ضرورة ترميم السيادة المصادرة من الديمقراطية، التي زُيّفت، لكن أيضاً من قوى السوق والاستهلاك والعولمة ومن جهاتٍ غير منتخبة أصلاً تفرض إملاءاتٍ على الوجهات التي يجب أن يسلكها الشعب: من مفوضية الأمم المتحدة، من الاتحاد الأوروبي، وطبعاً العولمة. وهذا يؤدي في رأيهم إلى تغييب الشعب عن المشروع الديمقراطي حتى ليسمى «الديمقراطية بلا شعب» زاعمين أنهم أي الشعبويون يريدون إعادة الديمقراطية الحقيقية إليه.
الصيغة الثانية بُنيت في بعض جوانبها على قضية المُهاجرين والغرباء والامتزاج الاجتماعي بين الفئات والأجناس وهذا ما يُفسّر سعيهم إلى حماية التجانس الشعبي أو وحدانيته ليقعوا في العنصرية والكراهية ورفض الآخر أو حتى بالقوميات المتطرفة الإثنية أو الدينية أو العرقية ما يؤدي إلى الانعزالية والتقوقع.
ولكن بعض من يمثلون هذا الاتجاه، لا يطمحون إلى الحفاظ عن النقاء العرقي أو المذهبي أو الأيديولوجي للشعب. بل يعملون على حماية طريق عيشه ونموذجه الاجتماعي وتقاليده، والتي لا يمكن أن يدافع عنها سواهم، من دون أن ننسى أيضاً مواجهتهم التعددية، وفي رأس هذه الهواجس الإسلام والأفارقة والأقلّيات. نذكر من هؤلاء مارين لوبان واليمين الفرنسي المتطرف وجماعة البركسيت البريطانية والصهيونية في فلسطين وسواها والميليشيات الإيرانية في العراق والسلطة الفارسية في الأحواز من دون أن ننسى لبنان والعراق واليمن. إنهم إما يمينيون متطرفون أو إيديولوجيون مذهبيون (خامنئي) وإما يساريون يلتقون في جوانب كثيرة مع اليمين على قواسم مشتركة وإن يختلفون في بعض البنود التفصيلية.
يُمثّل هذا الاتجاه اليساري (الماوية والتروتسكية) الزعيم الفرنسي ميلون شون. فهو وياللغرابة! يتحول بين المواقف والأفكار من وصولاتٍ ضائعة: فحيناً لا يهدف مثلاً إلى جمع اليسار، كما في انتخابات 2012 الفرنسية بل يتخلى عن كل مرجعية يسارية تاريخية. شعارهُ قوة الشعب (ومن دون أن نعرف أي شعبٍ يعني). يتماهى بما ترفعه مارين لوبان من عنوانٍ: «باسم الشعب». مُركّزاً على السيادة مُهاجماً أوروبا بعنف والعولمة والنُخَب... وهنا يتقاطع مع اليمين المتطرف واليسار اليوتوبي. لكن هناك ظاهرة قد تكون الأكثر راديكالية يجسدها الرئيس المجري فيكتور أوربان مبنياً شعارات «الديمقراطية اللاليبرالية» ويتقاطع مع الرئيس التركي أردوغان الذي يُحاول إغلاق منافذ الديمقراطية بشكلٍ مستمر لا سيما عندما انتقل نظامه من برلماني إلى رئاسي: عطّل الديمقراطية، شلّ النقابات، قام بعمليات تطهيرٍ واسعة غير مسبوقة ليعزل عشرات ألوف الموظفين والضباط والقضاة.
لكن شعار الديمقراطية اللاليبرالية الذي استخدمه أوربان، صاغه قبله الصحافي والباحث الأميركي فريد زكريا، عام 1979 لكن بمضامين مختلفة ومتناقضة عمّا وردت عند أوربان وسواه.

الشعبوية تغلغلت في عقول الناس وممارساتهم اليومية وسياقات الأنظمة، وهي غالباً ما تستغل السلالم الديمقراطية لتنفيذ استراتيجياتٍ استبدادية شاملة: أوليس هذا ما يعمدُ إليه «الإخوان» المسلمون منذ تأسيسهم والذين يشاركون في الانتخابات البرلمانية والرئاسية اليوم في تونس، وقبل ذلك في مصر ويحاربون في الوقت ذاته الشرعيات مع حلفائهم الأتراك وإيران في ليبيا ومصر وسوريا ولبنان؟ ونظن أن النظام الإيراني هو المثال الأسطع على هذه الشعبوية الجنونية: قلب الحقائق والوقائع وممارسة أساليب التضليل والشعارات الكاذبة (استرجاع القدس وادّعاء مواجهة إسرائيل والاستكبار العالمي) جامعاً بين الشعبوية الإثنية اضطهاد الأحوازيين العرب والمسلمين في الأحواز، والمذهبية الصارخة وإثارة الفتن الطائفية كما في اليمن ولبنان وسوريا والعراق.
*كاتب لبناني