تزايدت ردود الأفعال، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، غضباً على تصريح لأحد المشايخ قال فيه: إن «شهادة البدوي لا تُقبل على القروي» مطلقاً. هذا التصريح أزعج شريحة كبيرة جداً من الناس، لأنه قسّم مجتمعاتنا إلى قسمين، وفرّق بينهما في وقت نحن فيه في أمس الحاجة لما يدعم وحدتنا وتآخينا، ولم يكتف بذلك، بل زاد الطين بلة حينما سبّب لهذا التفريق العنصري بقوله: إن الأعراب والبدو يظهر عليهم الجفاء، ولا يعرفون قيمة الشهادة بسبب جهلهم، ولأن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً، بخلاف الحضري الذي تعلم وداوم على حضور مجالس الفقهاء، وبالتالي صار أقرب إلى الصدق من الأعرابي الجافي، مع أن الحضري البعيد عن مثل هذه الدروس هو في الغالب أكثر إنسانية. لقد جمع الشيخ نصوصاً كثيرة نزلت في أناس مخصوصين، في ظروف مخصوصة، في أزمنة مخصوصة، وعمم كل هذا على كل القبائل العربية، ودمغهم كلهم بالجفاء والقرب من الكفر، رغم أنهم يصلّون معه في نفس المسجد.
لا جديد ولا غرابة، فهناك شريحة من الفقهاء تحمل كراهية عميقة لأهل البادية، لم تتوقف حتى بعد أن ترك أهل البادية باديتهم واستقروا في المدن، واقتنوا الآي فون، وتابعوا «نيتفليكس»، إنه حوار غير منطقي من البداية إلى النهاية لأن العنصرية، بكل أشكالها، لا يمكن أن تنطوي على أي منطق من أي نوع.
عندما تسأل هؤلاء عن تعريف الأعرابي فسيجيبون بأنه ساكن البادية، فإذا أخبرتهم بأنه لم يعد هناك أحد يعيش في البادية، فسينتقلون إلى القول بأن الأعرابي هو من لا يزال يحمل صفات البادية بعد انتقاله إلى المدينة، من جفاء في الطباع واستماع لفن الشيلات وتربية للإبل، فإذا قلت له إن كل شرائح المجتمع يستمعون للشيلات ويقتنون الإبل ويتاجرون فيها، عندها تتبين الحقيقة أن الأعرابي هو من يحمل اسم قبيلة كبيرة من قبائل الجزيرة العربية. الغريب أن 70% ربما، ممن يستمعون لدروس هذا الشيخ هم من هؤلاء البدو، ومع ذلك فالخطاب ليس موجهاً إليهم، بل هو خبر عنهم.
ما سبب هذه الكراهية التاريخية؟ السبب أن أهل البادية قبل قيام دولنا الحديثة كانوا أهل غزو وسلب، ومن الطبيعي أن تنشأ العداوة لهذا السبب، حتى بين بعضهم بعضاً. تاريخ مخضب بالدماء ولن يستطيع أحد أن يدافع عنه، لكننا اليوم أبناء وطن واحد، ولم يعد يحدث بيننا ما كان يحدث في تلك الأزمنة، وهذه الكراهية لم تعد مبررة على الإطلاق.
قد يقول قائل: بأن «لا تقبل شهادة أعرابي على صاحب قرية» هو نص حديث نبوي، وبالتالي لا يلام الشيخ على اقتدائه بالسنة. إنه حديث ورد في سنن أبي داوود، والحنابلة يجلّون هذا الكتاب لأن أبا داوود نفسه كان حنبلياً، إلا أن الشيخ الألباني، وهو من قضى حياته في دراسة الحديث، قد أخرج ربع كتاب أبي داوود، ووصفه بأنه ضعيف السند، لذا لا يصح أبداً أن نفرق مجتمعنا من أجل روايات ضعيفة مشكوك في صحتها.
بعد أن وصفت المشكلة بهذه الصورة، سأنتقل إلى جهة أخرى لأقول: إنني لست ممن يدافعون عن البداوة، فالبداوة ليست جَداً لأحد ولا نسباً لأحد. إنها حالة اجتماعية جغرافية، وقد كان العرب عبر التاريخ ينتقلون من البداوة إلى الحضارة أو الفلاحة أو من الحضارة والفلاحة إلى البداوة بكل سلاسة، وقديماً شكا الشاعر الحضري، المرار بن منقذ التميمي، أنه قد تزوج تميمية بدوية فكرهت عيشة الحضر، وعادت إلى أهلها في البادية، لكن الحالة الأخيرة خفّت لأن الإسلام نهى عن «أن يرتد المهاجر أعرابياً بعد الهجرة». لذلك استقرت كل تلك القبائل في مدننا الحديثة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الوطن الغالي، ومن العيب حقاً أن يوصموا بهذه الصفات التي تجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية.
*كاتب سعودي