تعتقد معظم الدول العربية أنها ليست بحاجة إلى تطوير استراتيجية كبرى، لكونها تفتقر إلى القدرات البشرية والصناعية والعسكرية اللازمة، وربما ينطبق هذا لتصور على فرضية مفادها أنه لو صممت دولة صغيرة «استراتيجية كبرى» فإنها ستفتقر إلى الموارد اللازمة لتنفيذها. لكن السؤال الأهم: هل لتلك الدول مصالحها الوطنية؟ وإن كانت متواضعة مقارنةً باستراتيجيات القوى العظمى، خصوصاً وأنها تحت تهديد دائم؟
الدول الصغيرة تركزّ، بشكل أساسي، على البقاء كدول مستقلة. وبقاء دول المنطقة هو التحدي الأكبر والخطر المركب، وذلك من دون أن نوجد علاقة بين المصالح الوطنية والإمكانيات والمقدرات الحقيقية والمستقبلية والإجراءات الواجب اتخاذّها لتحقيق هذه المصالح الواضحة أو غير المعلنة منها، مع مراعاة الوسائل والموارد وتحقيق الاكتفاء الذي يجعل أهم الصناعات والموارد الأساسية للعيش متوفرة، سيكون هناك عجز في ما يمكن وصفه بـ«رأسمال الأمن الاستراتيجي»، ولن تحقق تلك الدول أمنها الوطني!
الدول الكبرى لديها استراتيجية كبرى (Grand Strategy)، تحدّد بها تعاملها مع العالم الخارجي، وكيف تسيّر أمورها في الداخل لضمان تحقيق أهدافها ومصالحها في الخارج، وحماية مواطنيها وأراضيها وسيادتها ومقدّراتها ومكتسباتها في الداخل.
العالم العربي يقع في منطقة قلب الصراع العالمي، ويعد هدفاً لا جدال فيه، وجائزة كبرى، تتنافس القوى الكبرى عليها، بل وتتنازع وتعمل معه بمبدأ فرّق تسدّ، وتنشر الفوضى بالقدر الكافي الذي يخدم مصالحها، وبالتالي لا بدّ من وجود استراتيجية كبرى للدول الصغيرة ذات الطموح الكبير والنفوذ الإقليمي والدولي.
فالاستراتيجية الكبرى تهدف إلى توظيف جميع أدوات القوة المتاحة لدولة ما، والاستخدام المخطط لها بعناية في الاقتصاد والدبلوماسية والعسكرية والمعرفة والتكنولوجيا، ونشر قيمها من خلال ثقافتها وأدبها وفنها ورياضتها لتحقيق أهدافها في السياسة الخارجية، وهي الطريقة التي تحاول بها الدول تأمين أماكنها في المجتمع الدولي، أو الضغط غير المباشر على بعض المجتمعات، وإحداث تغيير بها دون تحريك جندي واحد، وهناك نوعان من الاعتبارات المهمة في كيفية صياغة قادة العالم للاستراتيجية الكبرى، أولها: المكان والمشهد الجيوسياسي والطبيعية الجغرافية، ودراسة نوايا الجيران الخفية، وثقافتهم السائدة وثوابتهم القومية والتاريخية، وتحديد الطامعين وسبل وصولهم لمبتغاهم، ومصادر القوة والضعف وأنماط التفكير الاستراتيجي لديهم، ومن هم الحمائم والصقور في حكوماتهم؟ وهل لدى دولهم حق الوصول إلى الموانئ للشحن أو أنهم معزولون؟ ومن هم الحلفاء؟ ولماذا تحالفوا معهم، واستشراف متى سيتخلون عنهم؟
والاعتبار الثاني هو: الناحية الاقتصادية، وهل الدولة غنية أو فقيرة؟ وهل لديها الكثير من الموارد الطبيعية؟ وهل تم استغلالها بطريقة مثالية؟ وما نوعية جاهزيتها لمواجهة مخاطر الكوارث؟ ومدى ضعف وقوة سلسلة الإمداد والتموين؟ ومن يسيطر على الموارد الرئيسية فيها؟ وكيف تبدو القوى العاملة المحليّة ومهاراتها والبطالة الحقيقية والبطالة المقنّعة؟
وحتى لا يتم الوصول لنقطة الجفاف الاستراتيجي، يجب إدراك أنه لن يقوم الاقتصاد أو التعليم أو الصحة على سبيل المثال إلى مستوى متقدم، دون باقي مكونات القوى الشاملة للدولة في المحيط الداخلي والإقليمي والدولي، والتمرّكز العسكري والنفوذ الدبلوماسي، والتميّز في قدرة الدفاع والردع، وحتى لا تكون هناك فجوة تقود إلى فراغ استراتيجي لعدم التكامل والشمولية في النظرة الاستراتيجية، يجب أن يعتمد التخطيط الاستراتيجي في الاستراتيجيات الكبرى على قاعدة بيانات دقيقة وأبحاث تطبيقية وعقول مبدعة، ولا بدّ أن يسمع رأي الخبراء والأكاديميين والمفكرين والمخططين الاستراتيجيين في جميع القطاعات، بالإضافة إلى المقارنة المعيارية مع أفضل الممارسات ودراسة التاريخ، والأخذ بالبعد الفلسفي والتحليل الأمني والعسكري والاستخباراتي والسياسي والاجتماعي، ومعرفة حجم الاعتمادية المتبادلة بين القطاعات.
و من جهة أخرى، عند العمل على تطوير استراتيجية كبرى ينبغي دراسة الاستراتيجيات الكبرى لجميع الدول الكبرى والمجاورة، للوقوف على حقائق ثابتة لن يغيّرها الزمن إلّا إذا تغيرت المعطيات والظروف التي تكفل لها البقاء والتحكم في مواردها، ولذلك يعدّ البقاء والأمن والأمان ووجود مصادر طاقة وموارد مائية وغذائية مستدامة هي أساس أية استراتيجية كبرى لأية دولة مع اختلاف الطموح والرغبة. وإذا حلّلنا بعض تلك العناصر وما يلحق بها من أساسيات، لكان بديهياً إدراك أهمية الحصول على موارد أكثر، واتجاه بعض الدول إلى تجاوز القوانين والأعراف الدولية، أو نشر الفوضى والخراب في دولة أخرى، أو اعتراض مخططاتها والتنافس الشرس معها لتحقيق سبق استراتيجي، وهي كلها أمور مشروعة في مفهوم الاستراتيجية الكبرى للدول التي تسعى للسيادة المتكاملة.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات