في محاضرة عامة عن الأوضاع العربية الراهنة، سألني أحد الحاضرين عما يميز هذه الأوضاع عن سابقاتها، فليس الحال السيئ بالجديد على أمتنا العربية، وصدق السائل فقد عرف النظام العربي الأزمات والمخاطر والتهديدات بانتظام منذ نشأته الرسمية في1945، وكانت لديه دائماً القدرة على التعافي من هذه الظواهر السلبية، لكن الفارق يكمن في المدة الزمنية التي يحدث التعافي فيها، فالملاحظ أن هذه المدة تطول عبر الزمن، وهو ما يشير إلى أن قدرة النظام على التعافي تتراجع لعوامل سوف أحاول استقصاءها، وهو ما يحمل دلالات سلبية للمستقبل، ولنبدأ القصة من أولها.
أُسِست الجامعة العربية في 1945، ولم تكد تمضي ثلاث سنوات على تأسيسها حتى أُعلنت دولة إسرائيل في فلسطين، ونشبت الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى، التي انتهت بهزيمة عربية عام 1948، وكانت هذه أول نكبة واجهت النظام العربي في مرحلة نشأته، غير أن الدول العربية بدا وكأنها استوعبت بسرعة درس الهزيمة، فتوصلت إلى معاهدة الدفاع المشترك في1950 بعد أقل من سنتين على وقوع الهزيمة، وقد مثلت هذه المعاهدة نقلة نوعية في آليات العمل العربي المشترك، حيث أسست لنظام للأمن العربي يعتبر أي عدوان على دولة عربية عدواناً على الدول العربية كافة، ويؤسس لآلية لحماية هذا الأمن هي مجلس الدفاع العربي المشترك، الذي مثل نقلة نوعية في منظومة الجامعة العربية، حيث كان نظام التصويت في مجلسها الوزاري يقوم على اتخاذ القرارات بالأغلبية على ألا تُلزم إلا من وافق عليها! فأصبحت القرارات التي تُتخذ بأغلبية الثلثين في مجلس الدفاع ملزمة للكافة، وأُضيف إلى هذا لاحقاً مرحلة التحرر الوطني في البلدان العربية، التي شهدت إنجازات تاريخية حتى وقعت هزيمة1967 فكانت النكبة الثانية التي تماسك النظام العربي في مواجهتها، بعد أقل من ثلاثة أشهر على وقوع الهزيمة فعُقدت قمة الخرطوم التي بلورت موقفاً سياسياً مشتركاً، بالإضافة إلى مبادرة ثلاث دول عربية بتقديم دعم مالي لإعادة بناء القوات المسلحة العربية، وهو ما أفضى إلى خوض أنجح معركة عربية ضد إسرائيل في أكتوبر1973، ولم تكد تمر ثلاث سنوات حتى وقع الانقسام المصري-العربي حول التسوية مع إسرائيل، والذي سبب قطيعة مصرية-عربية دامت عقداً من الزمان، إلى أن بدا خطر تحول الميزان في الحرب العراقية-الإيرانية لصالح إيران، فقررت قمة عمان1987 السماح لمن يريد من الدول العربية بإعادة علاقاته مع مصر، وكانت هذه بداية عملية انتهت في1989 بحضور مصر القمة العربية في المغرب، وإعادة الجامعة العربية لمقرها بالقاهرة.
وكان عام 1990 بداية تدهور غير مسبوق في الأوضاع العربية بسبب غزو الكويت، وما أحدثه من تداعيات فادحة، ولم يمكن التوصل إلى مصالحة عراقية-كويتية إلا في قمة بيروت2002، ليأتي الغزو الأميركي للعراق في2003 فيحدث ما أحدثه من آثار مدمرة بتفكيكه الدولة والمجتمع في العراق، وإذكائه الفتن الطائفية والعرقية التي سرعان ما تمددت إلى أجزاء عديدة في الوطن العربي، وفتحه أبواب العراق على مصراعيها للنفوذ الإيراني، وزادت موجات ما سُمى بـ«الربيع العربي» هذه التداعيات كارثيةً، فقد أدت إلى نشوب صراعات داخلية وخلق البيئة المناسبة لتفاقم الإرهاب، الذي حقق نقلة نوعية بتأسيس دولة للمرة الأولى في تاريخه المعاصر، دامت أكثر من ثلاث سنوات (2014-2017)، وكذلك لتفاقم الاختراق الخارجي إقليمياً وعالمياً على نحو غير مسبوق، ويلاحظ أنه بينما تعافي النظام العربي بعد سنتين من هزيمة1948، وست سنوات من هزيمة1967، وبعد عقد من القطيعة المصرية-العربية، واثني عشرة سنة من غزو الكويت، فإنه لم يبرأ من المسار المظلم الذي دخله بالغزو الأميركي للعراق حتى الآن، أي أن «زمن التعافي» زاد من سنتين إلى ست إلى عقد إلى اثني عشرة سنة، وها نحن قد تجاوزنا ست عشرة سنة دون أن يبدو أكيداً متى يخرج النظام العربي من ورطته الراهنة، ولعل أحد التفسيرات المحتملة لهذه الاستطالة في «مرض» النظام العربي، وتزايد المدة المطلوبة لتعافيه أن أزماته وهزائمه بدأت خارجية (1948و1967) ثم أصبحت عربية بينية (1977و1990)، ثم انتهت بأن جمعت بين السمتين السابقتين (الخارجية والعربية البينية)، وأضافت لهما بعداً جديداً هو البعد الداخلي (محاولات التغيير وتداعياتها)، والمشكلة أن هذه الورطة تتزامن، وهذا طبيعي، مع مخططات إقليمية وعالمية لا تريد إلا سوءاً بالعرب.
*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة