منذ صدور التقرير العالمي عن معدلات الانتحار وسبل الوقاية منه، قبل خمس سنوات، ازداد بشكل واضح عدد الدول التي اعتمدت وطبقت استراتيجيات وقائية، حسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية عشية انطلاق النشاطات والفعاليات التي تصاحب اليوم العالمي لمنع الانتحار (World Suicide Prevention Day)، والذي يحل كل عام في العاشر من سبتمبر.
ولكن للأسف، رغم هذه الزيادة، لا يزال عدد الدول التي تبنت مثل تلك الاستراتيجيات والبالغ حالياً 38 دولة فقط، دون المستوى المطلوب، إذا ما كان للعالم أن يواجه بشكل فعال هذه المشكلة والتي تحولت إلى قضية صحة عامة في العديد من الدول. ويتضح حجم هذه القضية من الإحصائيات التي تظهر أن بمرور كل 40 ثانية، يقدم شخص ما في مكان من العالم على قتل نفسه، حيث يبلغ معدل الانتحار العالمي 10.5 حالة انتحار لكل 100 ألف من السكان. ويتباين هذا المعدل بشكل كبير بين الدول والمناطق الجغرافية، ما بين 5 لكل 100 ألف، إلى 30 لكل 100 ألف، بمعنى أن في بعض الدول تبلغ معدلات الانتحار 6 أضعاف معدلاتها في دول أخرى. ورغم أن العدد الأكبر من حالات الانتحار، وبالتحديد 79 في المئة، يقع في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، إلا أن (المعدلات) تبلغ أقصاها في الدول الغنية المرتفعة الدخل، وبمتوسط 11.5 لكل 100 ألف من السكان. وتتباين أيضاً معدلات الانتحار بين الجنسين، حيث تبلغ معدلاتها بين الذكور ثلاثة أضعاف معدلاتها بين الإناث في الدول الغنية، وإن كانت هذه المعدلات تتساوى بين الجنسين في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل.
وإذا صنفنا معدلات الانتحار حسب السن والفئة العمرية، فسنصطدم بحقيقة مؤسفة، وهي أن الانتحار يحتل المرتبة الثانية على قائمة أسباب وفيات من هم بين الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين، ولا يسبقه على هذه القائمة المشؤومة إلا حوادث الطرق والعنف الشخصي في حالة الذكور، ومضاعفات الحمل والولادة في الإناث. ومن الغريب أيضاً أن الانتحار بين من تخطوا سن الخامسة والستين، تبلغ معدلاته لدى الذكور عشرة أضعاف مثيلاتها بين الإناث. وكثيراً ما يكون انتحار الأطفال والمراهقين من نوع الانتحار المقلد أو المحاكي (Copycat suicide)، والذي تشتق تسميته من كونه تقليداً ومحاكاةً لعملية انتحار تمت سابقاً من قبل شخص آخر. مثل هذا النوع يحدث عند انتحار أحد المشاهير من الممثلين أو المغنين، حيث يقوم معجبوه بتقليده، وقتل أنفسهم بنفس الطريقة. هذا النوع ينتشر غالباً بين المراهقين والأشخاص غير الناضجين نفسياً.
ورغم أن الرابط والعلاقة بين الانتحار وبين الاضطرابات العقلية، وخصوصاً الاكتئاب وإدمان الكحوليات، هي علاقة واضحة وثابتة في الدول الغنية، فإن الكثير من حالات الانتحار يقع بشكل اندفاعي في لحظات من التهور، نتيجة أزمة عارضة طارئة، تتميز بانهيار قدرة المرء على التعامل مع الضغوطات النفسية التي تنتج عن الأزمات المالية الطاحنة، أو انهيار العلاقات الأسرية، أو الآلام المزمنة والأمراض المستعصية. وبخلاف الظروف الشخصية الفردية، أحياناً ما تدفع الظروف المجتمعية والعوامل المحيطة بأفراد مجموعة أو مجتمع بأكمله إلى الانتحار، مثل الظروف التي يحياها الأفراد خلال الحروب والصراعات المسلحة، أو الكوارث الطبيعية والصناعية، أو التعرض للعنف الدائم وسوء المعاملة المزمن، أو الشعور بالضياع والعزلة، وهي ظروف معروف عنها ارتباطاتها الوثيقة بزيادة معدلات الانتحار.
ومن بين طرق الانتحار المختلفة -وهي عديدة- يقدر أن 30 في المئة من حالات الانتحار تتم عن طريق تناول المبيدات الحشرية، وخصوصاً في المناطق الريفية بين سكان الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. ويعتبر قتل النفس من خلال الشنق، أو باستخدام الأسلحة النارية، من وسائل الانتحار الشائعة أيضاً. ويكتسي تحديد وسائل وأساليب الانتحار أهمية خاصة في رسم الاستراتيجيات الهادفة لمنعه ووقفه، وخصوصاً على صعيد الحد من توفر هذه الوسائل، ومن سهولة الوصول إليها والحصول عليها.
وللأسف لا تترك مأساة قتل النفس وقعها على الضحايا فقط، بل تمتد تبعاتها لتشمل أسرهم وعائلاتهم، ومجتمعاتهم، ودولهم بأكملها، وهي التبعات التي تستمر آثارها لفترة طويلة. فبناء على الأرقام والبيانات والإحصاءات، من السهل إدراك أننا أمام قضية صحية دولية، تودي بحياة مئات الآلاف من البشر سنوياً في مختلف بقاع وأصقاع الأرض، ليتركوا خلفهم الملايين وعشرات الملايين من الثكالى، من الأهل والأبناء والأقارب والأصدقاء، بناء على أن وقع وضرر وأذى قتل النفس، لا يقتصر على مرتكب فعلته، وإنما يتردد صداه في دائرة الأسرة، ويترك أثره على المجتمع برمته.