شهدت مدينة بروكسل خلال الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، انعقاد القمة العالمية للتطعيمات الطبية (Global Vaccination Summit)، تحت رعاية المفوضية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية، وبحضور قرابة الـ400 شخص من الزعماء السياسيين، وممثلي الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية، ووزراء الصحة، والعلماء والأكاديميين، بالإضافة إلى العاملين في قطاع الرعاية الصحية بمختلف مستوياته، وشخصيات مهمة من القطاع الخاص بمختلف نشاطاته.
وهدفت هذه القمة إلى دعم وتحفيز الجهود الدولية الموجهة ضد الأمراض الممكن الوقاية منها من خلال التطعيمات الطبية، وتصحيح المعلومات الخاطئة، ودحض وتفنيد المزاعم والأكاذيب التي أصبحت تلصق بها. كما يؤمل أن تزيد رعاية الاتحاد الأوروبي لهذه القمة، من الالتزام السياسي الدولي تجاه القضاء على الأمراض الممكن الوقاية منها من خلال التطعيمات، مع توسيع إطار التعاون والمشاركة من قبل قادة القطاعات المجتمعية المختلفة المعنية بهذا الأمر، مثل السياسيين، وقادة المجتمعين العلمي والطبي، بالإضافة إلى الشخصيات المؤثرة والملهمة في القطاع الخاص، والمجتمع المدني، وفي الفضاء الإلكتروني.
ولتحقيق هذه الأهداف ركزت فعاليات المؤتمر حول ثلاثة محاور رئيسية؛ الأول بعنوان: «في التطعيمات نضع ثقتنا» والهادف إلى زيادة النشاطات والإجراءات التي ترفع ثقة العامة في التطعيمات. أما المحور الثاني فحمل عنوان: «سحر العلم»، والهادف إلى دعم الأبحاث والدراسات والابتكارات في مجال التطعيمات، بينما حمل المحور الثالث عنوان: «التطعيمات حماية للجميع، وفي كل الأوقات»، والهادف إلى تحفيز العمل الدولي الجماعي، لرفع مستوى الصحة، وزيادة الأمن والرفاه، من خلال التطعيمات الطبية.
وتأتي هذه القمة الدولية في وقت تتعرض التطعيمات الطبية لحملة شرسة، كاذبة ومضللة، على منصات التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام أحياناً، لدرجة أن العديد من دول العالم أصبحت تواجه أوبئةً محدودةً من أمراض كان يفترض أنها تحت السيطرة بالاعتماد على التطعيمات الطبية، نتيجة انخفاض مستويات التطعيمات بين أطفال وأفراد شعوب تلك الدول، بسبب معلومات خاطئة ودراسات مزيفة أصبح يُروج لها على نطاق واسع. ومما زاد الطين بلة، التفاوت والتباين في توفر التطعيمات بين الدول، وحتى بين المناطق الجغرافية المختلفة داخل الدولة الواحدة، وهو ما جعل هذا الوضع برمته من أهم قضايا الصحة العامة حالياً، ودفع بمنظمة الصحة العالمية إلى الإعلان عن أن انتشار المعلومات الخاطئة عن التطعيمات أصبح أحد أكبر المخاطر الصحية في 2019.
فبعض الأمراض التي يطلق عليها أحياناً أمراض الطفولة، مثل الحصبة، عادت للظهور مرة أخرى وبقوة، بسبب تردد البعض في تلقي التطعيمات، نتيجة المخاوف الناتجة عن انتشار المعلومات الخاطئة والكاذبة، كما أن هناك أكثر من 22 مليون طفل، لا تتوفر لهم التطعيمات الأساسية أصلاً، ضمن ما يعرف يعرف بالقصور في التغطية التطعيمية أو فقر التطعيمات -إن صح التعبير- والذي يُرد إلى عدة أسباب؛ منها: شح الموارد والتي قد توجه لأولويات صحية أخرى، وسوء إدارة نظام الرعاية الصحية، وضعف نظم المراقبة والمتابعة، والاضطرابات والقلاقل السياسية، والحروب والصراعات المسلحة، وغير ذلك من الأسباب.
وتتضح فداحة الموقف برمته، من نتائج حديثة لدراسة تعد هي الأكبر من نوعها في العالم (Wellcome Global Monitor)، حيث تشمل 140 ألف شخص في 140 دولة. وتهتم هذه الدراسة بانطباعات وشعور عامة الناس تجاه القضايا العلمية، والتحديات الصحية الرئيسية، مثل مدى الثقة في النصائح الطبية التي يتلقونها من أفراد الطاقم الطبي، أو مقدار الفائدة التي يجنيها المجتمع من المجالات العلمية المختلفة. وعندما تعلق الأمر بالتطعيمات الطبية، أظهرت هذه الدراسة حدوث تراجع في الثقة بين العامة، في فعاليتها وأمنها.
ففي الوقت الذي يؤمن 79 في المئة من الناس بأن التطعيمات آمنة، ويتفق 84 في المئة منهم على أنها فعالة، تم تسجيل تزايد خلال الأعوام القليلة الماضية في نسبة المشككين والمتخوفين من فعالية وسلامة التطعيمات الطبية. هذا على الرغم من أن التطعيمات تحقق في الوقت الحالي الحماية والوقاية لمليارات البشر ضد أمراض معدية، لطالما حصدت أرواح الملايين عبر مراحل التاريخ المختلفة. بل إن التطعيمات الطبية نجحت بالفعل في القضاء التام والنهائي على الفيروس المسبب لمرض الجدري، كما شارفت مؤخراً على القضاء على الفيروس المسبب لشلل الأطفال. ويُقدر حالياً أن التطعيمات توفر الحماية والوقاية ضد 25 مرضاً مُعدياً، بداية من سنوات الطفولة وحتى المراحل المتقدمة من العمر، مثل الدفتيريا، والحصبة، والسعال الديكي، وشلل الأطفال، والتيتانوس. حيث تُقدر منظمة الصحة العالمية، أن برامج التطعيمات الدولية والوطنية، تنقذ حياة من 2 إلى 3 ملايين طفل كل عام.
*كاتب متخصص في الشؤون الطبية