تقوم قوة الدول على جملة من العوامل والأسباب والاعتبارات، قد تتغير من وقت لآخر تبعاً للظروف المحيطة بها. وقد بات معروفاً أن نجاح الدول، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، يكمن في مدى قدرتها على التعاطي مع المتغيرات وإدارة الأزمات، ووضع الخطط المستقبلية، وإعداد المستطاع من أنواع القوة.
لقد أدركت إسرائيل في أعماقها حقيقة ما ارتكبته من ظلم ضد الشعب الفلسطيني، فخلقت «إيمانها» بأنه في منطقة الشرق الأوسط لا وجود للضعيف. لذا فقد ترسَّخ في ذهنها أنه من أجل بقائها قويةً فهي بحاجة إلى قوة عسكرية متنامية كماً ونوعاً. كما أدركت أنه لكي تكون لديها قوة عسكرية متفوقة تفوقاً تاماً هي بحاجة لأحدث المعدات والتكنولوجيات العسكرية، ناهيك عن الأسلحة والصواريخ والطائرات، بل والقنابل الذرية.
وبما أن هذه الأمور مكلفة للغاية، والشيء المشترك فيما بينها هو المال، لم ترفع إسرائيل الضرائب على الناس لمستويات أكثر من اللازم، الأمر الذي كان سيؤثر حال تطبيقه سلباً على الاستثمار. وهي تعلم أن الحل يكمن في إنجاز قوة اقتصادية بإمكانها أن تصرف على القوة العسكرية. وها هي قوتها وتأثيرها يتعاظمان بمساعدة دول العالم الغربي، حيث نجحت في «مشروعها» كدولة من خلال التكامل بين السياسة والاقتصاد، فلا يضع أي منهما قيوداً على الآخر، بل يقوم بتكميله وتطويره ودعمه: فالسياسة تذلل العقبات أمام نمو الاقتصاد، والاقتصاد يهيئ البيئة الملائمة لتحقيق ورفع سقف الأهداف السياسية. القوة الاقتصادية تحصل عليها فقط عبر الاقتصاد الحر لكن المنضبط. وقد ظهرت أهمية هذا الطرح مع ما واجهه الاتحاد السوفييتي السابق الذي امتلك المبدعين والعلوم والتكنولوجيا، لكنه وصل قبل انهياره إلى حد الإفلاس لعدم وجود الاقتصاد الحر الحامي للمبدعين والداعم للعلم والتكنولوجيا.
لذلك، أولاً وقبل أي شيء، سعت إسرائيل إلى جلب المال من أجل تمويل قوتها الاقتصادية، فطوّرت اقتصادها، وبهذا حصلت على القوتين الكبيرتين: الأولى القوة الاقتصادية ذات التميز التكنولوجي التي يسعى وراءها اليوم العالم أجمع ويريد أن يستفيد منها، والثانية القوة العسكرية بتكنولوجيا متقدمة أيضاً والتي تخيف كل من يفكر في مواجهتها وتجعل كثيرين يسعون لرضاها وتعاونها، حتى بات لإسرائيل رأي وتأثير في كثير مما يحدث في منطقة الشرق الأوسط.
ومع الاعتبارات الأمنية التي تعد القضية المركزية لدى إسرائيل، والتي لطالما خدمها الاقتصاد لاعتبارات تأسيس الدولة في محيط معارض، أصبحت الصناعات العسكرية مصدر دخل اقتصادي وتأثير سياسي دولي ملحوظين.
وبحسب تقرير معهد «ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام» (سيبري) للعام 2018، فقد عززت إسرائيل مكانتها كواحدة من «أكبر الدول المصدِّرة للأسلحة، حيث احتلت المرتبة السابعة عالمياً في تصدير الأسلحة، فيما ارتفعت صادرات الشركات الإسرائيلية لصناعات الأسلحة بحوالي 55% على مدار السنوات الخمس الماضية». وفي السياق ذاته، أكد تقرير مشترك للصحفيين «توفا كوهين» و«آري رابينوفيتش» أنه «من الطائرات المسيرة إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة الدفاع الصاروخي إلى أنظمة الحرب الإلكترونية.. تقود إسرائيل العالم في مجال التكنولوجيا العسكرية الجديدة». ويضيف التقرير: «تتوقع دراسة أبحاث السوق الخاصة بأسلحة الحرب العسكرية السيبرانية أن تصعد هذه الأسلحة على قائمة المشتريات العسكرية الدولية، كواحد من أكثر القطاعات العسكرية ربحية بالتوازي مع الامتداد الإقليمي لهذه الصناعة. وتبرز إسرائيل كواحدة من أبرز رواد الصناعات العسكرية السيبرانية، وهي تعمل على اكتساح السوق عبر مواجهة القواعد المفروضة على تصدير هذه الأسلحة ومعدات التسلل الإلكتروني وبيعها في الخارج».
واليوم، لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع أكثر من 160 دولة، وبات العالم، وعلى رأسه الدول الصناعية الكبرى، يأتي إليها. وإضافة للولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر لإسرائيل، ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي، ها هي الصين والهند واليابان ودول جنوب أميركا، وكذلك دول كثيرة أخرى من آسيا، ودول أفريقية (زار نتنياهو القارة الأفريقية أربع مرات في غضون عامين فقط).. كلها تعقد الصفقات مع إسرائيل.
ومع انتعاش هذه القوى الثلاث، وعلى رأسها السياسية، حصلت إسرائيل على موقع في العالم، وباتت علاقاتها تزداد وتكبُر يوماً بعد آخر. لكن هناك قوة رابعة تستغلها الدولة الصهيونية لتثبيت دعائمها، ألا وهي القوة الروحانية متمثلة في استثمارها فكرة «الوعد الإلهي» التوراتي بأن أرض فلسطين اختارها الله لـ«الشعب المختار» ليسكنوا إليها، فهي حسب زعمهم «أرض الميعاد» التي سيعود إليها اليهود تحت قيادة المسيح المخلص، والأرض التي ستشهد نهاية التاريخ! وها نحن نرى الأثر الكبير لهذه المقولات «الروحية» التوراتية، ليس في تعزيز «اللحمة اليهودية» في أوساط واسعة لدى يهود «إسرائيل» والعالم، بل وأثرها على قوى متمسيحة على امتداد العالم وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية.