عندما يُكتب تاريخ هذه الحقبة الزمنية، سيتم تذكر الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 باعتباره اليوم الذي قاومت فيه مؤسستان أنجلوأميركيتان زعيمين أنجلوأميركيين سعَيا لإضعافهما. ففي صباح ذلك اليوم، حكمت المحكمة العليا البريطانية بأن رئيس الوزراء بوريس جونسون ليس له الحق في تعليق البرلمان من أجل إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي من دون أي اتفاقية تجارية. وكان الحكم متواضعاً، مثلما حاجج البعض بذلك، لأنه لم ينص على عقوبة أو حل: إذ أعلنت المحكمة بكل بساطة أن البرلمان ما زال منعقداً.
وفي المساء، على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، دعت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا، إلى عقد جلسات استماع من أجل النظر في إمكانية محاكمة الرئيس برلمانياً ومن ثم عزله من منصبه. وهناك سبب مباشر لدعوة بيلوسي، ذلك أن الرئيس دونالد ترامب طلب من نظيره الأوكراني، على ما يفترض الآن، فبركة قضية قضائية ضد نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (المنافس المحتمل لترامب في انتخابات الرئاسة القادمة)، واستغل وعداً بمساعدة عسكرية أميركية لابتزاز الزعيم الأوكراني ودفعه للموافقة. غير أن ثمة خلفية أعمق للمشهد أيضاً. ذلك أن مجلس النواب الأميركي كان محبَطاً منذ عدة أشهر بسبب موقف البيت الأبيض الرافض (وعلى نحو غير دستوري) توفيرَ شهود أو الإدلاء بأدلة، وهو موقف جعل من المستحيل على الكونجرس ممارسة أي نوع من الإشراف الحقيقي، وبسبب تحدي ترامب المستمر للقواعد القانونية والسلوكية. وفي تباين مع بريطانيا، فإن جلسات الاستماع في قضية عزل الرئيس لن تكون متواضعة أو هادئة. وعلينا أن نتوقع شهوراً من النقاش السياسي الصاخب.
وهناك اختلافات كثيرة أخرى بين القصتين البريطانية والأميركية، أكثر عدداً وأكثر وضوحاً من أن تُعدَّد هنا. غير أن ثمة وجه شبه واحد. ذلك أنه في كلا البلدين، بات مستقبل الهيئتين التشريعيتين المنتخَبتين في خطر. فخلال السنوات الأخيرة، فقد كل من البرلمان البريطاني والكونجرس الأميركي معناهما وشعبيتهما، بل وحتى شرعيتهما أحياناً، بعد أن أخذ الجهازان التنفيذيان في كلا البلدين قدراً متزايداً من النفوذ والسلطة. وعلى نحو متزايد، بات يُنظر إلى كلا الهيئتين التشريعيتين على أنهما مثيرتان للانقسام والجدل ومفتقدتين للفعالية، ولم يأت ذلك من فراغ أو من دون سبب. وعلى سبيل المثال، فإن الاستقطاب داخل الكونجرس جعل من الصعب تمرير حتى القوانين الأساسية اللازمة لتمكين الحكومة من مواصلة عملها. كما حالت الانقسامات داخل البرلمان البريطاني دون اختيار أي شكل معقول من البريكست، أو التراجع عن البريكست كلياً. وفي كلا البلدين، ابتعد النقاش السياسي الحقيقي عن مجلس العموم والكونجرس، وانتقل نحو استوديوهات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي.
الآن، أعادت المحكمة العليا في بريطانيا ورئيسة مجلس النواب في الولايات المتحدة التأكيد على حق المشرعين في كتابة السيناريو السياسي والسيطرة على الأحداث السياسية. لكن مع هذا التأكيد هناك مسؤولية كبيرة. فالبرلمان البريطاني، الآن وبعد أن استأنف جلساته، يجب عليه أن يجترح حلا واضحاً، إما من أجل بريكست معقولة أو ضدها نهائياً. وإذا لم يفعل، فإن سمعة البرلمان قد لا تتعافى أبداً. وبالمثل، يتعين على الكونجرس تقديم حجج واضحة موجِبة للعزل، ومقنعة لأغلبية الأميركيين على الأقل، وفي أحسن الأحوال مُقنعة لمجلس الشيوخ بمواصلة السير على نهجه. أما إذا كانت الجلسات تافهة، أو فيها قدر مبالغ فيها من التعصب الحزبي، أو سيئة التنظيم، وإذا استغل الأعضاء الفرصة من أجل الاستعراض السياسي، وإذا كانت الأدلة غير كافية أو غير مبهرة.. فإن سمعة الكونجرس، وخاصة الديمقراطيين فيه، لن تتعافى أيضاً. وحينها، سنكون في عصر مختلف يمتلك فيه الرؤساء ورؤساء الوزراء، عملياً، سلطةً غير محدودة.
«إن مصلحة الشعب هي القانون الأسمى»، هذا ما كتبه شيشرون، رجل الدولة والخطيب الذي ناضل ضد نهاية الجمهورية الرومانية. لكن من له أن يقرر ما هي «مصلحة الشعب»؟ هذا هو موضوع الرهان على كلا جانبي الأطلسي!


*مؤرخة أميركية وأستاذة بكلية لندن للعلوم السياسية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»