عاشت تونس نحو تسع سنوات، بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، تمكنت خلالها من استكمال مراحل الانتقال السياسي، وقطعت شوطاً في مسيرة الديمقراطية التي برزت مؤخر عندما أبعد التونسيون مرشحي الأحزاب، وألحقت صناديق الاقتراع ما وصفه المراقبون ب«زلزال سياسي» وضربة موجعة للنخبة السياسية الحاكمة، وفوز مرشحين«مغمورين» إلى خوض الجولة الثانية من انتخاباتـ رئاسة الجمهورية، الأول قيس سعيد وهو مرشح مستقل، والثاني نبيل القروي، وهو قابع في السجن بتهمة التهرب الضريبي، مع العلم أن لديه برنامج «خيري» ويساعد الفقراء والمحتاجين.
ولكن اللافت في هذه الانتخابات، ضعف المشاركة الشعبية، حيث كان عدد الناخبين أقل من نصف عدد المسجلين، بما يمثل تراجعاً بنسبة 20 في المئة، مقارنة مع الانتخابات السابقة عام 2014، ما يعكس«هشاشة» الثقة بمرشحي الرئاسة، وتراكم الخيبات من الوعود التي بقيت من دون تحقيق، وفي غياهب النسيان. وإذا كانت تونس تشهد اليوم «ديمقراطية شفافة»، لكنها مفتوحة على سلسلة أزمات، نتيجة فشل المنظومة الحاكمة في تحقيق توقعات الشعب الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
لم تتمكن تونس منذ الثورة من تحقيق نقلة اقتصادية توازي ما تحقق سياسياً، فالأزمات الاقتصادية تمثل مشكلة أمام الحكومات المتعاقبة، وأهمها: تفاقم العجز في مالية الدولة، وارتفاع إنفاق القطاع العام على الوظائف الحكومية، وانخفاض الإنفاق الاستثماري على تمويل المشاريع التنموية، وإغراق البلاد في الديون وأعبائها، والتي أصبحت تهدد بتدهور سعر صرف الدينار، في ظل استمرار حالة عدم استقرار الوضع الاجتماعي، وارتفاع نسبة البطالة مع تراجع فرص العمل، فضلاًً عن مخاطر الاقتصاد الموازي، عقب إدراجها في«القائمة السوداء» للاتحاد الأوروبي والتي تضم الدول الأكثر عرضة لمخاطر عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والمعتمدة من المفوضية الأوروبية، استناداً إلى توصيات مجموعة العمل المالي الدولية (غافي).
لقد واجهت تونس عدة مؤشرات سلبية، وتلقت حكومتها سلسلة انتقادات وتحذيرات دولية، منها تقرير من البنك الدولي حذر فيه التونسيين من المخاطر الأمنية غير المباشرة من ليبيا، ومخاطر اقتصادية نتيجة بطء النمو في منطقة اليورو التي تستوعب معظم الصادرات التونسية، وارتفاع أسعار النفط العالمية، وتدهور معنويات المستثمرين تجاه الأسواق الناشئة، في ظل ارتفاع عجز المعاملات الجارية على المدى المتوسط. إضافة إلى انتقادات وتحذيرات عدة، من صندوق النقد الدولي الذي مدها بالقروض لدعم مسيرتها في الانتقال السياسي بشكل ديمقراطي، وطالبها بتغيير سياستها المالية، خصوصاً لجهة «تركيب نفقات الموازنة» التي تدهورت مسجلة زيادة كبيرة في كتلة الرواتب والأجور. وسبق للصندوق أن وافق على برنامج للدعم المالي المشروط بقيمة 2.8 مليار دولار على مدى أربع سنوات، على أمل أن يتضاعف النمو إلى 4 في المئة عام 2017، ثم 4,7 في المئة العام الماضي، ونحو5 في المئة 2019. ولكن خلافاً لتوقعات الصندوق، سجل النمو 1.9 في المئة 2017، ونحو 2.5 في المئة العام الماضي، وتستهدف الحكومة نمواً يبلغ 3,1 في المئة في العام الحالي، حتى إن هذا المعدل في حال تحقيقه، يصفه البنك الدولي بأنه «نمو متدن» لا يساعد في تحقيق تحسينات جوهرية على البطالة والفقر، والخلل الكبير في توزيع الدخل، وسط اتساع العجز المالي وعجز الحساب الجاري. ومع استمرار تونس بالاعتماد على الاقتراض لحل مشاكلها الاقتصادية، ونظراً لمستوى الدين الخارجي المرتفع والمتفاقم، وتعدد انعكاساته السلبية، فقد أصبح هذا الدين من أخطر معضلات الواقع التونسي.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.