صفق كثير من المفكرين والشعراء والسياسيين لثورة الخميني، كالفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو والمخرج السينمائي غودار وأدونيس... إنها ثورة إذاً وعلى كل مثقف أن يحيي جماهيرها ورائدها. تجاوز الجميع كيف صفى الخميني كل حلفائه، كما فعل هتلر وستالين وروبسبيير، من حزب توده إلى القوميين والليبراليين في مجازر فظيعة أدت إلى قتل عشرات الألوف. تغاضى هؤلاء وقالوا من الطبيعي أن تأكل الثورة أبناءها، أي أن تقوم على الدم. عندما اكتملت مفاصل الثورة الآرية في ألمانيا وأعلن هتلر الحرب على العالم استفاقت أوروبا:يا للهول، ثم أميركا. وهكذا عندما بدأت إيران الخميني أثناء حكمه وبعدها خامنئي، تكشف عن وجهها الامبراطوري التوسعي عبر تصدير الثورة. جانبها الكثيرون أو هادنوها وغضوا النظر عما ترتكبه، وها هي أميركا بوش تسلمها العراق كله تسليم اليد، بالاتفاق معها طبعاً. وها هي الخمينية في لبنان مع وكيلها الحصري «حزب الله» تحارب إسرائيل لتحرير الجنوب (بعد تصفية المقاومة الفلسطينية) وعندما انسحبت إسرائيل من الجنوب حرره «حزب الله» من احتلال واحد، ليسلمه إلى احتلالين؛ السوري والفارسي. ثم ارتدت على لبنان كله لضرب الدولة واستيعابها والهيمنة على مؤسساتها... العالم لم يتحرك. تركها تسيطر على بلد عربي ثانٍ، ثم توسعت إلى اليمن بوكلائها «الحوثيين» الذين انقلبوا على الشرعية وفتكوا بالناس والحدود، وشرعوا بعدوانهم على السعودية والخليج. وها هي تنتقل إلى سوريا لا لتنقذ النظام، بل لتحتل هذا البلد تحت شعارات وممارسات مذهبية، وتهجر ملايين من سكانه الإسلاميين والمسيحيين، وها هي كأنها باتت احتلالاً كامل الأوصاف. العالم تواطأ معها، وإسرائيل في الطليعة ثم أوباما، ثم المهادنة الجماعية، حيث أوباما يبرم اتفاقاً نووياً معها ويكافئها بمئتين وخمسين مليار دولار.
إيران الوحش الكاسر تنهش عدة دول عربية والعالم مستمر في تواطؤه (الأمم المتحدة منعت الشرعية اليمنية من تسجيل انتصار في الحديدة)، فشربت إيران حليب السباع وانتفخت نرجسياتها المذهبية والعنصرية، فتمادت بعدما ألغى ترامب اتفاقها النووي مع أوباما، ثم فرض عليها العقوبات. وأخيراً جاء من يتكلم بلغتها. فهي لا تؤمن لا بالمصداقية ولا بالدبلوماسية ولا بالحوار ولا بالمفاوضات: بل بالقوة. وبدلاً من أن تواجه أميركا مباشرةً اعتدت على السعودية، وها هي تهدد أمن الخليج النفطي وتعتدي على ناقلاته حتى اليابانية والنرويجية والإنجليزية: أوروبا ما زالت تهادن. ثم ضربت إيران ضربتها بقصف منشأتي أرامكو بصواريخ الكروز والدرون، وتسببت بأزمة عالمية كادت تهدد اقتصاد العالم، لولا استعادة السعودية ضخ نفطها كالمعتاد... لكن أوروبا حتى الساعة ما زالت متمسكة بالاتفاق النووي وبالوساطة بين ترامب وإيران، وكأنها تتغاضى عن شروط أميركا الاثني عشر مختزلة بأربعة: تعديل الاتفاق النووي، توفير أمن النفط في الخليج، الكف عن الاعتداء على جيرانها، لجم وكلائها بالمنطقة. تناسى الأوروبيون هذه البنود وكأن لا يعنيهم سوى النجاح في المفاوضات، لكن إزاء هول العدوان الإيراني على أرامكو اهتزت قناعات ويقينيات أوروبا: تغيرت أخيراً قواعد اللعبة، قالها ماكرون وجونسون وميركل. مؤكدين أن إيران هي التي قصفت أرامكو ولكن استبقوا وساطتهم لا لانقاذ الاتفاق النووي، بل لانقاذ إيران: انتهت اللعبة. ما زالت ازدواجية الخطاب الأوروبي... لكن، لكن ويا للمفارقة، فإيران عبر رئيسها تنفي مسؤوليتها. فتهدد حتى الدول الأوروبية الثلاث التي دانت هجومها على أرامكو، في بيان إيراني يقول: «ما جاء في بيان القادة الأوروبيين الثلاثة بعيد عن الحقيقة، مهدداً بأن يتحمل الموقعون تداعيات سياستهم ويحتسبون لنتائجها»، بل كأنها في عزلتها الجديدة ازدادت شراستها وعبثيتها، لكن فقدت سحر مراوغاتها ونفاقها ومناوراتها.
فهل اقتنعت أوروبا والعالم بأن هذه الدولة لا يدار لها ظهر؟ وخرجت السعودية وأبوظبي والكويت من الجمعية العمومية منتصرة، لا لأنها ردت بسلاح إيران ومحاولتها بإشعال حرب بالمنطقة، بل لأنها انتزعت منها أعز أسلحتها:اللعب على حافة الهاوية.