برغم أن صلاحيات رئيس الجمهورية ليست كبيرة في النظام السياسي التونسي، الذي يُصنف شبه برلماني، فقد أظهرت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية أن تونس على أعتاب مرحلة جديدة. خسر مرشحو الأحزاب، وصعد إلى الجولة الانتخابية الثانية مرشحان يعتمد أحدهما (قيس سعيد) على خطاب شعبوي يتوجه إلى الناس مباشرة، ويقوم على أن حزبه الوحيد هو الشعب، فيما يستخدم الثاني (نبيل القروي) أمواله الوفيرة في تقديم مساعدات وخدمات واسعة في المناطق الفقيرة، مصحوبةً بخطاب لا يخلو من شعبوية.
ولذا، أصبح السؤال المحوري عشيةَ الجولة الرئاسية الثانية، التي تتداخل مع الانتخابات التشريعية، هو: هل تتجه تونس إلى تجاوز حالة الاستقطاب الثنائي بين القوى الحداثية والوسطية من ناحية، والاتجاهات التي تنسب نفسها إلى الإسلام من الناحية الثانية، أم سيُعاد إنتاج هذه الحالة في صورة جديدة؟
كانت ثنائية «نداء تونس»- «النهضة» هي التعبير الأكثر وضوحاً عن ذلك الاستقطاب، الذي لم تنجح محاولات وضع حد له عقب انتخابات 2014، حين بدا أن حركة «النهضة» تتجه إلى تأجيل طموحاتها الكبرى، التي اصطدمت باتجاه رئيسي في الشارع عندما حققت تقدماً في انتخابات 2011 البرلمانية، وهيمنت على حكومة ائتلافية شكلتها بمشاركة حزبين صغيرين.
لكن تجربتها المرة في الفترة بين عامي 2011 و2013، ودرس فشل جماعة «الإخوان» في مصر وخروجها الكامل من المجال العام مُثقلة بخسائر غير مسبقة، دفعاها للتريث. ولذا، بدا لوهلةٍ أنها استوعبت هذا الدرس التاريخي عندما اتجهت إلى التعامل الحذر مع الانتخابات النيابية التي أُجريت في أكتوبر 2014 وتصدرها «نداء تونس» (86 مقعداً)، بعد أن خسرت 20 مقعداً مقارنة بانتخابات 2011. كما امتنعت عن تقديم مرشح من قادتها في الانتخابات الرئاسية نهاية 2014، مكتفيةً بدعم حليفها المنصف المرزوقي، الذي خسر في الجولة الثانية أمام السبسي بفرق يُعتد به. كما قبلت أن تكون شريكاً صغيراً في حكومة يوسف الشاهد، فكان لها ثلاثة وزراء فقط من أصل 26 وزيراً، وثلاثة كُتاَّب دولة من أصل 14 كاتب دولة.
غير أن هذا الاتجاه إلى تأجيل الطموح، لم يستمر طويلاً. كانت الانتخابات البلدية في مايو 2018 بداية التراجع عنه، إذ لجأت إلى مختلف الوسائل سعياً لتصدّرها، فكانت وحدها التي قدمت مرشحين في الدوائر الانتخابية كلها (350 دائرة)، ورشحت عدداً معتبراً من السيدات، فحصلت على 2139 مقعداً مقابل 1600 مقعد لـ«نداء تونس»، وكذلك الحال في رئاسة البلديات (131 مقابل 76 للنداء).
وامتداداً لاستعادة طموحها والتخلي عن حذرها، قدمت مرشحاً للانتخابات الرئاسية للمرة الأولى (عبدالفتاح مورو)، فيما رشحت زعيمها راشد الغنوشي على رأس القائمة الأكثر أهمية في الانتخابات البرلمانية التي حُدد موعدها الأحد المقبل. وتدل ملامح الاصطفاف الحاصل استعداداً لهذه الانتخابات، وللجولة الرئاسية الثانية، على أن هذا الاستقطاب يُعاد إنتاجه. فقد قررت «النهضة» أن تقف وراء المرشح الشعبوي قيس سعيّد، مراهنةً على إمكان استثمار اتجاهاته المحافظة، على أساس وجود تداخل بين هذه الاتجاهات والتراث الديني، رغم أنها أعلنت نفسها حزباً مدنياً، دون أن يترتب على هذا الإعلان تغير ملموس في مواقفها.
وليس صعباً تبين اتجاه القوى الحداثية إلى دعم المرشح الثاني نبيل القروي، حتى إذا كان كثير منها يجد حرجاً في إعلان هذا الدعم، كونه متهماً بمخالفات مالية، رغم عدم وجود ما يؤكد صدقية الاتهام، فيما أثار توقيت احتجازه، قبل ثلاثة أسابيع على الجولة الرئاسية الأولى، جدلاً عن احتمال وجود قصد سياسي وراءه.
وإذا صح أن هذا هو الاتجاه العام للاصطفاف في الجولة الرئاسية الثانية، والانتخابات البرلمانية، نكون إزاء احتمالين. الأول أن يشتد الاستقطاب بفعل استعادة «النهضة» طموحاتها السلطوية التي اضطرت لتأجيلها بين 2014 و2018، وسعيها للهيمنة على المشهد مجدداً. والثاني أن يقتصر هذا الاستقطاب على الحملتين الانتخابيتين الرئاسية والبرلمانية، ثم يأخذ في الانحسار تدريجياً بعدهما في حالة استمرار قطاع يُعتد به من الناخبين في معاقبة الأحزاب والحركات السياسية، وفي مقدمتها «النهضة» التي فشل مرشحها في الجولة الرئاسية الأولى. وعندها، ربما يصبح البرلمان الجديد أكثر تنوعاً، وقد يزداد فيه عدد المستقلين، وممثلي الأحزاب الصغيرة الأكثر براجماتية وبعداً عن الخلط بين السياسة والدين.