في الوقت الذي ندرك فيه جميعاً مدى أهمية التغذية الجيدة في الحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض -على الصعيد الشخصي والفردي- يتزايد أيضاً الاهتمام بجعل التغذية الجيدة محوراً أساسياً ضمن مهام وأوليات قطاع الرعاية الصحية الوطني. ومما يدعم ويعزز هذا التوجه، التقديرات التي تظهر أن الاستثمار في التغذية الجيدة على الصعيد المجتمعي، من الآن وحتى عام 2025 فقط، يمكنه أن ينقذ حياة 3.7 مليون شخص على مستوى العالم، وأن يقيهم من الوفاة المبكرة بسبب أمراض وعلل ناتجة عن التغذية السيئة.
وبُنيت هذه التقديرات على نتائج دراسات كبرى، كالدراسة التي نشرت بداية الصيف الماضي في إحدى الدوريات الطبية المرموقة (The Lancet)، وخلصت إلى أن ما نتناوله من طعام يومي يتسبب في 11 مليون حالة وفاة مبكرة سنويا. وبذلك يكون الطعام اليومي سبباً أكبر للوفيات من التدخين، كونه مسؤولاً عن واحدة من بين كل خمس حالات وفاة بين أفراد الجنس البشري. وحسب هذه الدراسة التي تحمل اسم «العبء العالمي للأمراض» (The Global Burden of Disease Study) وتمولها مؤسسة «بيل وميلندا جيتس»، وتعتبر المرجع الرئيس لأسباب الوفيات حول العالم، تتجه أصابع الاتهام لثلاثة متهمين رئيسين: ملح الطعام المسؤول عن ثلاثة ملايين حالة وفاة سنوياً، ثم عدم تناول كميات كافية من الحبوب الكاملة المسؤول عن وفاة ثلاثة ملايين آخرين، ثم عدم تناول كميات كافية من الفواكه والمسؤول عن وفاة مليونين إضافيين. كما يُتهم أيضاً - وإنْ كان بشكل أقل- عدم تناول كميات كافية من المكسرات، والبذور، والخضراوات، وأوميجا-3 من المأكولات البحرية، بالإضافة إلى عدم تناول كميات كافية من الألياف الغذائية.
وبخلاف العائد الإنساني المتمثل في وقاية الملايين من البشر وتجنيبهم الوفاة المبكرة، وبالإضافة إلى أن الاستثمار في برامج التغذية الجيدة سيساعد الدول على تحقيق هدف توفير رعاية صحية شاملة لجميع أفراد المجتمع وبلوغ باقي أهداف التنمية المستدامة، يمكن لهذه البرامج أن تحقق عائدا ملحوظ على الاقتصاد، حيث يقدر أن كل دولار واحد يتم استثماره في برامج التغذية الصحية الأساسية، يحقق عائداً بمقدار 16 دولاراً على الاقتصادين المحلي والوطني، أي عائد بمقدار 16 ضعف حجم الاستثمار.
ورغم التحديات التي لا زالت تواجه المجتمع الدولي على صعيد توفير تغذية صحية لأفراد الشعوب والمجتمعات، إلا أنه تم بالفعل تحقيق عدد من الإنجازات خلال العقود القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال، انخفض معدل التقزم -قصر القامة بالنسبة للعمر- بين الأطفال دون سن الخامسة، من 39 في المئة عام 1990 إلى 22 في المئة فقط عام 2018، أو من أكثر من 250 مليوناً إلى 150 مليوناً فقط، بفارق 100 مليون خلال أقل من ثلاثة عقود.
وإذا خصصنا بالحديث هنا بعض التدخلات الغذائية المحددة التي تستهدف عناصر غذائية معينة، فسنذكر مثلاً المضافات والمكملات الغذائية المحتوية على عنصر الحديد، وعلى حمض الفوليك أو فيتامين (B9)، خلال فترة الحمل. وهناك أيضاً الجهود المبذولة لدعم وحماية والتشجيع على الرضاعة الطبيعية خلال الشهور الأولى من حياة المولود، وحملات التوعية والإرشادات المتعلقة بخفض المتناول من السكريات المضافة، سواء للبالغين أو الأطفال، وحملات التوعية بخفض المتناول من ملح الطعام، كوسيلة فعالة لخفض احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية أو بالسكتة الدماغية.
أما في الاتجاه الآخر، أي على صعيد التحديات والإخفاقات، فهي لا زالت متعددة ومتنوعة، وربما كان من أشهرها زيادة الوزن والسمنة، والتي تشهد معدلاتهما تزايداً مستمراً. ففي الفترة التي تراجعت فيها معدلات قصر القامة بسبب سوء التغذية، بين عامي 1990 و2018، زادت نسبة السمنة بين الأطفال من 4.8 في المئة إلى 5.9 في المئة، أو 9 ملايين طفل إضافيين أصيبوا بزيادة الوزن والسمنة خلال هذه الفترة. وفي البالغين أيضا، زادت معدلات زيادة الوزن والسمنة في جميع دول وبقاع العالم دون استثناء تقريبا، ليصل عدد زائدي الوزن حالياً إلى 1.9 مليار شخص، وعدد المصابين بالسمنة المفرطة إلى 650 مليوناً، وهو ما يعادل 13 في المئة من تعداد سكان العالم الحالي.
والمعروف والثابت والمؤكد أن السمنة تعتبر عامل خطر خلف كتالوج متنوع من الأمراض والعلل، مثل داء السكري، وأمراض القلب والشرايين، وخصوصا الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية، بالإضافة إلى التهاب المفاصل المزمن، وبعض أنواع الأمراض السرطانية، التي يصل عددها في بعض التقديرات إلى 13 نوعاً، مثل سرطان الثدي، والكبد، والقولون.
*كاتب متخصص في الشؤون الطبية والعلمية