يثير انهيار شركة «توماس كوك» وإعلان إفلاسها في 22 سبتمبر الفائت أسئلة ومخاوف كثيرة حول مستقبل الأعمال والتجارة في العالم، فهذه الشركة العملاقة والرائدة لم تقدر على استيعاب ومواجهة الأعمال والتحولات الجديدة من خلال شبكة الإنترنت، والحال أنه ثمة ما يدعو للقلق بالنسبة لكثير من الأعمال والمجتمعات مع حلول الروبوت مكان الإنسان في العمل والصناعة والتجارة، لكن أيضاً هناك آمالاً وفرصاً جديدة لمعظم الناس إنْ لم يكن جميعهم، وهذا بالطبع ليس جديداً في تاريخ الإنسانية، ويمكن الملاحظة والتذكر كيف تغيرت الأعمال والمجتمعات والمهن تغيراً كبيراً على مدى المسار والتاريخ التكنولوجي للعالم، فبمجيء الآلة البخارية ومعها السفن الكبيرة والقطارات والشاحنات والسيارات اختفت مدن كثيرة كانت مزدهرة بسب حركة وخدمة القوافل التجارية القائمة على الإبل، ومعها أعمال ومهن وأسواق، وغيرت الأجهزة الكهربائية في النظام الاجتماعي والأسري على نحو جذري، فقد تمكنت المرأة من المشاركة في سوق العمل على قدم المساواة مع الرجل، وهيمنت الأسر النووية (صغيرة الحجم) واختفت الأسر الممتدة، وانخفض عدد المواليد، وصار عدد أفراد الأسرة قليلاً، وارتفعت معدلات الأعمار، وزادت نسبة كبار السن بسبب تقدم الطب والخدمات الصحية وتحسن التغذية، ويمكن الملاحظة ببساطة كيف أن معظم إنْ لم يكن جميع ما لدينا اليوم من سلع وخدمات وفرص في الحياة لم تكن موجودة في أجيال سابقة.
في البلدان ذات الأجور المرتفعة للعمل ستكون الروبوتات بديلاً يقلل التكلفة على الأعمال والمصالح، وكذلك الأعمال منخفضة المهارة، فإنها معرضة للزوال لتتولاها الروبوتات، وسوف يغير ذلك في طبيعة العلاقات التجارية بين الدول الغنية والفقيرة، لأن الحاجة إلى العمالة غير الماهرة وقليلة التكلفة سوف تتراجع كثيراً، وسوف يكون على الدول والمجتمعات الفقيرة أن تدير بنفسها احتياجاتها وأعمالها الأساسية معتمدة على الفرص والموارد الممكنة لتعوض النقص في التحويلات المالية، وقد يكون ذلك إيجابياً على اقتصادات ومجتمعات هذه الدول، وبرغم أن التعليم سوف يكون متاحاً بتكاليف قليلة لجميع الناس من خلال شبكة الإنترنت، فإن الأعمال والمهن التعليمية سوف تتغير باتجاهات تساير هذه التحولات، ومرجح أن جزءاً كبيراً منها سوف يختفي.
ومتوقع أيضاً أن الطابعات ثلاثية الأبعاد سوف تغير كثيراً في اتجاهات وطبيعة الواردات والصادرات كما المؤسسات والمباني أيضا، فقد تزدهر الأعمال والصناعات المنزلية وتقلّ الحاجة إلى الورش والمساحات والمباني الكبيرة، كما تقل الحاجة إلى كثير من العاملين، وتبدو نحو نصف التجارة القائمة اليوم معرضة للاختفاء حسب تقرير للبنك الدولي، لكن ربما تتحسن الصادرات في كمياتها وتكلفتها أيضا، كما تقلّ تكلفة إنتاج السلع، ما يخفف على الأفراد أعباء المعيشة.
وقد بدأت تصل نسبة استخدام الروبوتات والطابعات ثلاثية الأبعاد إلى مائة في المائة في إنتاج بعض السلع والأعمال، وبمستوى متقدم في الإنتاجية والسلامة والأخطاء والعيوب، هكذا فإن العلاقة بين العمل والاقتصاد تتغير أو يعاد فهمها واحتسابها وتقديرها، ففي حين يستفيد من ذلك أصحاب رأس المال ومنتجو التكنولوجيا المتقدمة، فإن الفقراء ومحدودي الدخل يخرجون من سوق العمل والمشاركة الاقتصادية، وفي حين تزيد أرباح الشركات تنخفض دخول العاملين فيها، وتتركز الثروة بيد فئة قليلة جدا من الناس، لكن أيضا تنشأ مهن وأعمال جديدة مرتبطة بالروبتة والأتمتة، فالبائعون والمبرمجون والمهندسون تتحسن فرصهم ودخولهم أيضا، كما تدخل إلى الأسواق منتجات جديدة تحسن الحياة والأعمال، وبالطبع فإن حالة من عدم المساواة تتفاقم وتهدد التماسك الاجتماعي للأمم، وتتأثر النساء كما كبار السن على نحو سلبي أكثر من الرجال والشباب، ما ينشئ تركيباً اجتماعياً وفئوياً جديداً للبطالة وانخفاض الدخل، وقد أدى النمو الواسع في أجهزة الصراف الآلي إلى تشغل البنوك العاملين في وظائف وأعمال جديدة مثل العلاقات العامة مع العملاء، وتحسين الخدمات المالية بدلا من الأعمال التي كانوا يقومون بها قبل استخدام الصرافات الآلية، لكن في المجمل يتناقص عدد العاملين في البنوك وتقل حصتها في التشغيل برغم نمو أعمالها وأرباحها.
وتتحسن عمليات السلامة في المصانع والورش بفضل التطور التقني والقدرة على الإحاطة ببيئة العمل وتشغيل الروبوتات في الأعمال والأماكن الخطيرة، وهذا يحسن بيئة العمل والإنتاج حتى في الدول الأقل تقدما بسبب انخفاض تكلفة الأجهزة المتقدمة وسهولة الحصول عليها.
وبالطبع يظل المستقبل بعيداً عن الإحاطة التامة، وكذلك الأعمال نفسها، ومازالت الفرص والمخاطر تفاجئ المخططين والباحثين، كما أن المتواليات في تعقيداتها وتفاعلاتها تنشئ حالات خارجة عن التوقع، فالحديث عن تقليل تكلفة الإنتاج مثلاً وإن كان يبدو ذا أثر مباشر على العمل والأجور، لكنه يحفز على نحو يصعب توقعه في الأعمال والعلاقات والإبداع.
*كاتب وباحث أردني