هناك فرق بين السعي إلى ملء الفراغ السياسي، على مستوى الخطاب والممارسة، وبين تحقيق «الكمال السياسي» فالأخير مجرد ادعاء أو تصور خيالي، نجد له صوتاً وصدى في النصوص الأدبية والفلسفية التي تنزع إلى الطوباوية، ونعثر عليه بين ركام مزاعم الأيديولوجيات الجامدة التي ظن من وضعوها، وكذلك الذين اعتقدوا فيها برسوخ، أنها تنطوي على كمال، أو أنها دائرة مغلقة محكمة، تحوي كل شيء داخل قطرها.
وقد أثبتت التجارب الإنسانية أن حديث أتباع هذه الأيديولوجيات لم يكن سوى دعاية، تغازل أصحاب العقول الضحلة، والنفوس الغافلة، التي لا تدرك أن أي فعل بشري لا بد أن فيه إذا ما تم نقصان، أو أن بعضها يدرك لكنه يمعن في دعايته محاولا أن يصور كل ما ينطلق منه على أنه مكتمل، ولا جدال في هذا.
فعلى سبيل المثال فإن كل محاولات ادعاء الكمال التي قدمتها الماركسية اللينينية والنازية والفاشية انتهت إلى بوار، وخلفت وراءها ملايين القتلى والجرحى، وذكريات مريرة عن كوابيس عاشها الروس والألمان والإيطاليون، ومعهم العالم كله، الذي وقف مندهشا، ليس حيال التصورات السياسية والاقتصادية التي حملتها هذه الأيديولوجيات فحسب، بل أيضا الأفكار الغريبة التي تزعم تخليق الإنسان الكامل أو الخارق. فبينما اتكأ هتلر على تصورات نيتشة عن «السوبرمان»، وأراد تحقيقها من خلال عنصرية «الجنس الآري»، كلف ستالين العالم إيليا إيفانوف بتهجين «إنسان لا يقهر» من البشر والقرود، ورأى تروتسكي أن النوع البشري سيرتقي مع تواصل اختبارات المعامل والتدريب النفسي والجسدي.
وإذا كان البحث عن الكمال لدى هذه الأيديولوجيات الثلاث قد اتخذ صيغة عصرية، عبر تخليقها وترتيبها وعرضها بأيدي رجال سمعهم الناس ورأوهم، فإن هناك من يستدعي تجارب تاريخية للراحلين بعيداً، مضفياً عليها طابع الكمال السياسي أيضاً، فالجماعات والتنظيمات الدينية التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية، ترى الكمال في نموذج سياسي مضى، وقد أشاعت هذا حتى ذاع صيته لدى عموم المسلمين، الذين كانوا مهيئين بالفعل لهذا جراء خطاب ديني استمر في تأكيد هذا الأمر دون تمحيص ومراجعة، فوفق «أمجد حبرون»، فإن «الخلافة الراشدة تمثل في الفكر السياسي الإسلامي، ولدى جمهور المسلمين، نموذجا سياسيا تاما، يجمع صفات الكمال السياسي، وعلى جميع المستويات إلى حد أنه لا تكاد تجد أحدا من المتقدمين والمتأخرين، شكك في هذا الكمال، أو على الأقل، تصدى لبيان حدوده وخصوصياته»، استنادا إلى منسوب العدل الذي ساد، وسمات الخلفاء ومناقبهم، التي حفل بها التاريخ الإسلامي.
وهذا التصور ينسحب على بعض أتباع الديانات الأخرى، فاليهود لم يكتفوا بالحرية الدينية التي عاشوها في كنف الإمبراطورية الفارسية (538 332 ق. م) واستقرت فيها اليهودية كعقيدة وشريعة، وانتهى زمن السبي البابلي، وأُعيد بناء الهيكل، بل ظلت تراودهم فكرة إقامة دولة، أو تنظيم أنفسهم كمجتمع ديني سياسي جديد، متصورين أن هذه الدولة ستمثل «الكمال السياسي»، رغم أن تصورهم وقتها كان ذا طابع كهنوتي ثيوقراطي، وهي الفكرة نفسها التي تؤمن بها الأحزاب الدينية في إسرائيل حالياً، في دولة نشأت على أساس الدين، وإن كان نظامها السياسي علمانيا.
ويأخذ الأمر عند كثير من المسيحيين وأتباع «الصهيونية المسيحية» اتجاهاً مضاداً، لا يعود إلى الوراء، إنما يمضي إلى الأمام، إذ إن الذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة، كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعودة.
وفي المقابل فإن الذين ظنوا قيام هذا الاكتمال على أساس دنيوي لم يختلفوا كثيرا، فالحنين إلى «ديمقراطية أثنيا» البكر، لا ينفى أبدا أن الجمهوريات اليونانية لم تبلغ مستوى الكمال السياسي للنظام الجمهوري، من حيث هو نظام يقوم على الحرية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، لأن القوانين كانت تتجه لصالح أبناء الطبقة العليا. كما أن الديمقراطيات الحديثة، وإن كانت قد قدمت النظام الأفضل للحكم، فإنها لا تخلو من عيوب وثقوب، لم ينكرها أشد المتحمسين لها في الغرب.