كلما انتفض العراقيون في عاصمة الرشيد (بغداد العروبة)، غاضبين ومحتجين على الأداء الضعيف لحكومتهم، يتم قمع مظاهراتهم بعنف مفرط وتُقطع عنهم خدمة الإنترنت. لم يذق العراق طعم الاستقرار والهدوء منذ عقود خلت، بسبب ثروته النفطية والبشرية الكبيرة، حيث تم احتلاله أكثرة من مرة ومن أكثر من جهة، وسقطت أنظمته عدة مرات على أيدي أكثر من عدو وغاصب، وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي الهام والحيوي المغري للغزاة والجاذب للطامعين، فضلاً عن موارده الطبيعية المتنوعة، من نفط وزراعة ومياه، إلى جانب أهميته التاريخية والجغرافية بالنسبة للعرب والمسلمين، حيث تمت مقارعة الغزو المغولي والفارسي والعثماني والبريطاني، ولازالت تتم مقارع المحاولات الإيرانية للاستيلاء على هذا البلد العربي الحر الذي نطلق من أرضه أنبياء وقادة وسياسيون وأدباء ومفكرون ومثقفون وعلماء.. اشغلوا العالم بإنجازاتهم العظيمة وصنعوا حضارة عريقة وغنية على مدى 7000 عام!
وبعد أن ضاق العراقيون ذرعاً بأوضاعهم الصعبة، وبافتقارهم للحياة الكريمة، وبعد أن تحملوا ما لم يتحمله أي شعب في العالم من الاضطهاد والمهانة والتهميش، من القتل والتعزير والتشريد والتهجير والاعتقال والإقصاء، في ظل الحروب الأهلية والطائفية والمذهبية والقتل على الهوية.. تحركوا أخيراً ليُسمِعوا العالمَ صوتهم.
العراق بلد عربي مهم جداً ورقم صعب في معادلة التوازن الإستراتيجي في المنطقة، وإذا قوي العراق وأشتد عضده قويت شكيمة المنطقة العربية وازدادت استقراراً، وإذا ضعف العراق ضعفت الأمة العربية، لإنه حارس البوابة الشرقية للعالم العربي. وخلال الآونة الأخيرة، نزل شباب العراق بصدور عارية إلى ساحة التحرير في بغداد وبعض المحافظات الأخرى، وهم من كل الطوائف والقوميات والمذاهب والمكونات، دون قيادة أو حزب أو أيدلوجيا مسيسة أو طائفة دينية. ولعلها أول مرة يقود فيها الشباب العراقي مطالب التغيير منذ 100 عام تقريباً. إنهم يطالبون بالتغيير والإنقاذ من الظلم والفساد والإهمال وسرقة ثرواتهم وتهريبها.
  الخوف أن تدخل «داعش» (وأخواتها)، بسلاحها وشحمها ولحمها (ولحاها)، وتركب الموجة العارمة للانتفاضة الشعبية الوطنية السلمية، بتنسيق ودعم ما، وتتم دعشنة الحراك.. فتفسد فرحة الشباب المتطلع للخلاص ولتغيير الأوضاع وطرد الفاسدين عبر إقامة حكومة وطنية لا تابعة لأحد. وعند ذاك ستتحول المظاهرات بقدرة قادر إلى طائفية وإرهابية ومدسوسة (!). وهذا سوف يشوه الصورة الحقيقية لأهداف الشعب المشروعة، لترتفع الأصوات مطالبةً بالتخلص من الحراك الشعبي واجتثاثه وطرده.. وبذلك يتم تحويل المظاهرات السلمية والوطنية إلى احتجاجات إرهابية مسلحة يجب دفنها وقتلها وطردها والتخلص منها بأي حال من الأحوال!
وبذلك يتم إفساد المشروع الوطني الذي قاده الشباب العراقي، ويضيع الهدف السامي لهذه المظاهرات السلمية المشروعة، لتتحول بتصريح رسمي إلى منظمات إرهابية متطرفة دموية مدسوسة ودخيلة، تريد قتل الناس الأبرياء وتصفيتهم والتنكيل بهم، وليس مظاهرات شعبية غاضبة، ممثلة لكل فئات الشعب المظلوم تحت سطوة النار والحديد على أيدي المغول الجدد العابرين من خارج الحدود على ظهور الدبابات الأجنبية باسم الديمقراطية المزيفة!
* كاتب سعودي