لا أعرف أي استعارة يمكنني استخدامها لوصف الأزمة الحالية في سياستنا؛ لأن هناك الكثير الذي يتبادر إلى ذهني. هل نحن عند نقطة تحول؟ أم على حافة الهاوية؟ أن نجلس على فوهة بركان في انتظار انفجاره؟ يمكنكم اختيار أي من هذه الخيارات أو كلها، لأننا في موقف لم نكن فيه من قبل وهو أمر خطير.
لم تبدأ المشكلة بانتخاب دونالد ترامب. ولم تبدأ بشروع «الديمقراطيين» في اتخاذ إجراء بالمساءلة ضد ترامب. إنها مشكلة متطورة تنمو مثل السرطان داخل سياسة حكومتنا منذ 25 عاماً على الأقل. وأعراضها الرئيسية هي الافتقار إلى الكياسة في خطابنا السياسي، وعقلية «عدم الرحمة»، وإنكار لشرعية «الجانب الآخر». ولم يخلق ترامب هذه الأزمة، لقد كان نتيجة لها.
عندما تولى «نيوت جينجريتش» منصب رئيس الكونجرس عام 1995، وعلى العكس من القادة «الجمهوريين» السابقين، شرع في حملة ليس فقط لعرقلة جهود الرئيس آنذاك كلينتون، ولكن لتدميره. وأطلق الكونجرس سلسلة من التحقيقات يتهم كلينتون بكل شيء، من الفساد إلى عرقلة العدالة –مع تلميحات بمزيد من المؤامرات الأكثر شراسة لاغتيال أولئك الذين قد يشكلون مشكلة لرئاسته.
واستقروا أخيراً على كذب كلينتون بشأن فضيحة جنسية محرجة كأساس للعزل. وكان أكثر ما يلفت الانتباه في هذه العلاقة المخزية هو ما أظهره هذا الجيل الجديد من «الجمهوريين» لكلينتون، والذي لم يكن سياسياً بل شخصياً. فهم لم يكونوا يرونه كرئيس شرعي وسعوا إلى تدميره.
ولاحقاً، خلال مواجهة طويلة دامت شهوراً وصاحبت حملة 2000، وانتهت بقرار المحكمة العليا بأن «جورج بوش» هو الفائز، أجرى شقيقي «جون زغبي» استطلاعاً للرأي سأل فيه الناخبين «الديمقراطيين» و«الجمهوريين» ما إذا كانوا سيشعرون، سواء فاز الطرف الآخر أم لا، بأن الرئيس الجديد يعتبر «رئيساً شرعياً». وكانت النتائج مثيرة للقلق، على الرغم من حقيقة أن «آل جور» قد فاز في التصويت الشعبي وأن النتيجة كانت لا تزال محددة، فإن أغلبية كبيرة من «الجمهوريين» قالوا إنهم لن يقبلوا «جور» كرئيس شرعي. وعلى الجانب الآخر، قالت أغلبية من «الديمقراطيين» إنه إذا تم إعلان فوز بوش، فإنهم سيحترمون النتيجة.
ولم يواجه بوش، على العكس من كلينتون، انتقاماً من مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه «الديمقراطيون» لقد وافقوا على تخفيضاته الضريبية، واحتشدوا خلفه بعد أحداث 11 سبتمبر، وأعطوه التفويض لشن حرب وسلطات غير مسبوقة للمراقبة الداخلية. ولم يكن «الديمقراطيون» هم الذين أغرقوا رئاسة بوش، بل حربه الفاشلة في العراق، وسوء تعامله الكارثي في أعقاب إعصار كاترينا، والانهيار الاقتصادي عام 2008.
وخلال أسابيع من تنصيب باراك أوباما، عزز «الجمهوريون» جهودهم لعرقلة رئاسته ونزع الشرعية عنها. وأعلنت قيادة الأقلية في الحزب «الجمهوري» في مجلسي النواب والشيوخ عن نيتها ألا تعمل معه، بل «وإسقاطه» من خلال التمويل الخارجي وتنظيم مجموعات خارجية، مثل جماعة «حفل الشاي». وكانت لجهودهم عواقبها. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري آنذاك، أن أكثر من 60% من «الجمهوريين» قالوا إنهم يعتقدون أن أوباما لم يولد في الولايات المتحدة – وبذلك فهو ليس رئيساً شرعياً.
رئاسة أوباما لم يتم توجيه أي اتهام ضدها، لكن اللجان «الجمهورية» في الكونجرس قامت بمضايقة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، حيث اتهمتها بإخفاء وحذف حساب بريدها الإلكتروني الخاص عن المحققين. وخضعت لساعات من التحقيقات من قبل أعضاء الكونجرس الذين اتهموها بالفشل في حماية السفير الأميركي في ليبيا، ما أدى إلى مقتله.
إن الازدراء الذي أبداه الكونجرس في اتهامه لهيلاري كلينتون بالمساهمة في مقتل السفير الأميركي كان من الواضح أنه محاولة لمضايقتها وإذلالها والحط من خدمتها. وهذا الافتقار إلى الاحترام والكياسة يأخذنا إلى الحملة الرئاسية لعام 2016 وانتخاب دونالد ترامب.
خلال الانتخابات التمهيدية، شوه ترامب خصومه، وانتقد وسائل الإعلام وأهان المحاكم واستغل مخاوف كراهية الأجانب وحرض أنصاره ضد المتظاهرين. وكان سلوكه شائناً لدرجة أن النقاد أعلنوا أنه «غير قابل للانتخاب». ولم يدركوا أن البئر السياسي كان مسمماً للغاية، لدرجه أن ما وجدوه غير مقبول كان يلقى استقبالاً جيداً من قبل العديد من الناخبين «الجمهوريين» الذين اعتادوا على احتقار «الآخرين» على مر عقدين. وهؤلاء الذين اعتقدوا أن ترامب سيتصرف بشكل رئاسي عند دخوله المكتب البيضاوي، وجدوا أنهم كانوا مخطئين.
كانت فترة صعبة تلك التي أمضيناها على مر عامين ونصف مع هذا الرئيس. فقد أقر ستة تخفيضات ضريبية ورفع القيود. ويكمن الخطر في أنه نشّط حركات تفوق البيض من خلال إثارة مشاعر العنصرية وكراهية الأجانب. وفي ذات الوقت، أظهر ترامب ازدراءً للكونجرس وسيادة القانون، مما دفع بعض «الديمقراطيين» للمناداة بعزله. إن قيامه بفصل المسؤولين الذين يحققون مع أعضاء إدارته ورفضه التعاون مع المطالب المشروعة للكونجرس بخصوص سلوكه في المنصب، وافتقاره إلى القواعد أقرها الكونجرس كانت كلها مسائل مثيرة للشك.
وبينما كانت قاعدة الحزب «الديمقراطي» تطالب بالإقالة، ترددت القيادة، خوفاً من أن يكون هذا فخاً أراد ترامب أن يقعوا فيه من أجل حشد مؤيديه. ومع نشر تقرير أحد مخبري وكالة الاستخبارات المركزية، يزعم أن الرئيس سعى إلى إخضاع الحكومة الأوكرانية للتحقيق مع جون بايدن المرشح الرئاسي «الديمقراطي» البارز، وبذلك يساعد على تقدم احتمالات إعادة انتخاب ترامب، تحول المد ولم يكن أمام قيادة الحزب «الديمقراطي» خيار سوى البدء في إجراءات إقالة ترامب. إنني حقاً لا أدري كيف أصف الأزمة الحقيقية التي تواجه ديمقراطيتنا، كل ما أعرفه بالتأكيد هو أنها أزمة.
رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن