وضعت الاحتجاجاتُ المتواصلةُ في العراق، منذ مطلع أكتوبر الجاري، الحكومةَ العراقيةَ وقوى البرلمان وكذلك المراجع الدينية، في موقف حرج للغاية، وبات النظام السياسي العراقي على المحك. فبعد عام من تولي عادل عبدالمهدي رئاسة الوزراء في العراق، تشهد مدن عراقية كثيرة موجةَ احتجاجات ليست الأولى، لكنها تتميز عن سابقاتها، من حيث حجم المشاركة الشعبية، ومن حيث استخدام العنف المفرط في قمعها، إذ تجاوز عدد القتلى جراء القمع، حتى يوم أمس الأحد، حاجز المئة، بينما قدر عدد المصابين بنحو 4 آلاف شخص.
وكانت انطلاقة المظاهرات عفوية، إذ لم تحركها تنظيمات ولا أحزاب سياسية، بل مطالب اجتماعية واقتصادية بالأساس، كتحسين الخدمات ومعالجة قضايا البطالة والفساد وسوء الخدمات. لكن في ظل التعامل الأمني العنيف مع المتظاهرين، وتوالي سقوط القتلى والجرحى، تصاعدت حدة الاحتجاجات لتتخذ طابعاً سياسياً حاداً، عبر المطالبة برحيل الحكومة، كما بدأ المتظاهرون يرددون شعارات مناهضة لإيران، مثل «العراق حرة حرة وإيران تطلع برة»، إضافة لحرق العلم الإيراني.. كما رفعوا صور الفريق عبد الوهاب الساعدي، الذي نُقل من منصبه كقائد لقوات مكافحة الإرهاب إلى وزارة الدفاع، الأسبوع الماضي، وأثار نقله المفاجئ ردود فعل في الشارع العراقي، وأطلق العراقيون وسماً مؤيداً له في مواقع التواصل الاجتماعي، قائلين إن إقالته جاءت تنفيذاً لأجندات خارجية، تستهدف هيبة الجيش العراقي لصالح ميليشيات «الحشد الشعبي».
ولفهم فسيفساء المشهد العراقي الحالي، نلاحظ أن حكومة عبدالمهدي تضم قوى شيعية ذات أغلبية برلمانية، وأخرى سنية، كنتاج للمحاصصة الطائفية، إذ حصل ائتلاف «سائرون» المكون من حزب «الاستقامة» التابع للتيار الصدري والحزب الشيوعي وقوى مدنية ويسارية أخرى، على أكبر عدد من المقاعد خلال الانتخابات النيابية في مايو 2018. وقد وعد الائتلافُ ناخبيه في حينها بإصلاحات واسعة وبمكافحة الفساد وإبعاد النخبة «الفاسدة» من السلطة. ويعود لائتلاف «سائرون»، ولمقتدى الصدر شخصياً، الفضل في تعيين عبدالمهدي رئيساً لحكومة أُريد لها أن تكون تكنوقراطية.
أما مرجعية النجف، فحذّرت من تداعيات استخدام العنف ضد المتظاهرين، لكن خطبة ممثلها في الجمعة الأخيرة كانت مقتضبة، وإن دعا فيها الحكومةَ «لتدارك الأمور قبل فوات الأوان».
ورغم رفض المتظاهرين أي تسييس لحراكهم، لا سيما من الأحزاب المشاركة في العملية السياسية، ومع تزايد عدد ضحايا الاحتجاجات، والإفراط في استخدام القوة الباطشة لقمع الاحتجاجات.. فقد دعا الصدر الحكومةَ إلى الاستقالة، والتحضير لانتخابات مبكرة بإشراف أممي. ووصف الصدرُ ما يجري في العراق بأنه «استهتار بالدم العراقي، ولا يمكن السكوت عليه».
للقمع المفرط الذي استخدمته حكومة عبدالمهدي ضد التظاهرات عواقب وخيمة، وهو تعبير صارخ عن عمق الأزمة التي وصل إليها النظام السياسي العراقي. وإن كانت قوات الأمن العراقية مسؤولة عن قتل المتظاهرين فتلك مصيبة، وإن كانت الميليشيات الإيرانية فالمصيبة أعظم.
واليوم، لا يبدو أن حكومة عبدالمهدي تمتلك غير الانصياع لمطالب المتظاهرين، ومحاولة استرضائهم، عبر إعطاء وعود سريعة لاحتواء موجة الغضب الشعبي. وقد يشمل ذلك التضحية ببعض الساسة، من خلال إجراء تغييرات في المناصب السياسية والأمنية والعسكرية.. وفي حال استمرت التظاهرات، فربما تتم التضحية بالحكومة ككل.
بعد 16 عاماً على الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، وبعد أن أحكمت إيران سيطرتها على العراق، تأتي الاحتجاجات الحالية لتضع العراق أمام منعطف حاد في تاريخه المعاصر، والجميع يترقب نتائج الانتفاضة ضد الفساد. لكن، وكما قال رئيس الحكومة العراقية، في خطابه: «لا توجد حلول سحرية لكل المشاكل بين ليلة وضحاها».