أكثر ما يغيظك في مجال السياسة وشؤونها أن الآخر الضالع في المؤامرات والدسائس، يعتقد أن لا أحد يعلم عن مكائده شيئاً، بسبب دقة تخطيطه ودهاء تدبيره وغموض أهدافه. والحقيقة الغائبة أن كل ما يقوم به مكشوف تحت الشمس، خطاباته ورسائله وحركاته وسكناته، وحتى نواياه، شدة الضغائن جعلتها تنبو عن مراميها الخبيثة. في قرارة النفس وأنت ترى ما ترى في هذا المشهد على الخارطة العربية تحديداً، تود أن يبقى هذا الآخر على جهله بأنك تعلم، فذلك يدفعه إلى التمادي الواضح في حماقاته والإيغال في جرائمه. على أن يأتي يوم مأمول يُهدم فيه كهف الظلم على عبّاده.
إيران وقبل أي أحد، تطيّر تصريحاً حول ما يحدث في العراق، بعدما تعدى عدد القتلى المئة متظاهر والجرحى المئات، تقول فيه إنها (واثقة) من أن الحكومة العراقية (قادرة) على ضبط الشارع، الذي ألهبه متظاهرون عراقيون منذ الأسبوع الماضي، وهم يحملون مطالب عدّة ومن أهم هتافاتهم (بغداد حُرة حُرة.. إيران برّه برّه). الشعار الذي يترجم إحساس الشعب العراقي بمختلف فئاته وطوائفه، بأن المسؤول الأول عن غول الفساد لنهب الثروات والمقدرات الوطنية العراقية، هو إيران. وبأن سبب إفقاره وجوعه وعطشه وأمراضه ومعاناته التي تصعب على الوصف، هو إيران، فقد امتصت غذاءه وماءه وتمتص اليوم دمه. لم تبقِ إيران للعراقيين شيئاً يقتاتون عليه سوى الأوبئة، تحديداً في ظروف الحصار الاقتصادي الحالية التي تمر بها. لقد اختارت العراق ليكون حبلاً سرياً تتغذى عبره على قوت العراقيين، أو اعتباره آلة (أ تي أم) تسحب منه مصاريف احتياجاتها المستمرة. إنها الحقيقة التي عرفها الشعب العراقي مبكراً وحاول التعبير عنها بمئات المحاولات السلمية اللاعنفيّة، لكن أدوات إيران في الداخل العراقي المعروفة له جيداً، أجهضت هذه المحاولات. دائما كانت تلك الأدوات في مواجهته، تقمعه بالحديد والنار ليكف ويصمت أو يقتل.. وصمت الشعب على مضض وقهر يتحيّن الفرصة. لقد مورس على قطاعات واسعة من الشعب العراقي في الشمال والجنوب الأساليب القمعية ذاتها التي مارستها إيران الثيوقراطية على شعبها طوال 40 سنة قهريّة، منذ أن أطاحت أميركا وأوروبا بالشاه محمد رضا بهلوي وجاءت بالخميني سنة 1979.. وتلك كانت أسوأ مشورة أمن قومي أميركي لـ(زبيجنيو بريجينسكي). اليوم، الذي يتصدّى للمتظاهرين في شوارع المدن العراقية كافة، ليس الجيش الوطني أو الشرطة العراقية، إنما مجموعة الميليشيات المرتبطة بإيران وقائمتها طويلة، تناسلت في العراق وسوريا ولبنان واليمن. عصابات أفرادها جُمعوا من أشقياء الشوارع. مضللون لا يربطهم رابط سوى المال والقتل والتسبيح باسم المموّل المرشد إلى الدمار. أحد العراقيين نقل لي قوله (إنها المليشيات التي تقتل أبناءنا بالرصاص الحي، وتهرسهم بعجلات السيارات). كلما ضاقت بإيران جهات الدنيا أثارت مشكلة أو أزمة في البلدان التي زرعت فيها أذرعها.. تطلقهم ساعة الفزع والضيق إما لتوجيه الأنظار عن أذىً يجري التحضير له أو حال دائم مستعص، أو لخلق موجبات ترسّخ عبرها عمالة مستدامة في هذا البلد أو ذاك. إنها أذرع، أرادتها (مصدات الأمن القومي الفارسي الإقليمي). اليوم، يصعب الاقتناع بأن جعل العراق ضمن الدول الست الأكثر فساداً في العالم، وضرب أرامكو، وأحداث مصر الأخيرة، وتوترات لبنان الداخلية والحدودية، وتخبط «الحوثي» وتغوله في الدم اليمني، وتوترات هرمز، كلها جاءت محض مصادفة وأن إيران بريئة منها.