مبادئ «وثيقة المدينة» تتشابه مع وثيقة «الأخوة الإنسانية» من حيث منطلقاتهما ورؤاهما، حيث تدعو كلتاهما إلى احترام التنوع والاختلاف بين البشر، تأكيداً لقول الله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (13، الحجرات).
عندما غادر رسول الله مكة المكرمة، واستقر في المدينة لبناء الدولة الإسلامية، كان أول ما قام به، هو وضع قوانين لتحكم مختلف الأجناس والطوائف، حيث كانت المدينة مزيجاً من المسلمين واليهود والملحدين، وحتى يحكم النبي جميع المقيمين باختلاف دياناتهم ومعتقداتهم كان لا بد من وضع قوانين تحفظ الحقوق الأساسية للجميع.
وفي عام 622 م كتبت أول وثيقة في التاريخ ترسخ الحقوق والحريات على جميع القبائل والمقيمين بالمدينة عرفت باسم «وثيقة المدينة»، وآنذاك هي أشبه بالدستور في يومنا هذا. وكان الهدف من صياغتها تنظيم العلاقات الاجتماعية والمالية والسياسية بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة حتى يعيشوا في سلم وأمن. وفي السيرة النبوية يشير «ابن كثير» إلى مقدمة نص «ميثاق المدينة»، التي ورد فيها التالي: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي الأمي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس...إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم..»، وَ«إِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى..». يتكون الميثاق من 47 بندًا ينص على تشكيل أول دولة إسلامية تضم ديانات متعددة. وتحتوى بنوده عدة مبادئ أساسية ومنها مبدأ التعايش السلمي، والتكافل الاجتماعي والتعاون لصد العدوان الخارجي وحرية الاعتقاد. ينص البند 25 أنه يحق لليهود والعرب غير المسلمين ممارسة عقيدتهم دون أي قيود. يعلق المستشرق الروماني «جيورجيو» على وثيقة المدينة أنها من أعظم الوثائق التي كتبت في التاريخ، وأن أغلب بنود الدستور تتعلق بالطائفة اليهودية، وخصصت لهم 28 بنداً. ولهم الحق في أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم وتحفظ دور العبادة من أي اعتداء عليها.
وبخصوص وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي تم توقيعها في العاصمة الإماراتية أبوظبي يوم 4 فبراير 2019 بين شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، فإنها تؤكد قبول الاختلاف والتعددية في الدين واللون والجنس والعرق واللغة، تأكيداً لقول الله تعالى: «وَلَوْ شَا?ءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود 118)، وتؤكد أن حماية دور العبادة واجب تكفله كل الأديان واستهدافها بالاعتداء خروج عن تعاليم كل الديانات، كما تتضمن الوثيقة تجريم إكراه الناس على دين بعينه.
جاءت وثيقة «الأخوة الإنسانية» لتؤكد مبادئ التعايش، حرية الاعتقاد، العدل، حفظ الحقوق...الخ- التي، سبق أن أرساها النبي محمد عليه الصلاة والسلام في المدينة، والتي تؤكد حق العيش المشترك في ظل الأخوة الإنسانية.
دولة الإمارات تسير وفق منهج الإسلام السمح، حيث احتضنت أكثر من 200 جنسية متعددة اللغات والمعتقدات والمذاهب والديانات، ووضعت قوانين تكفل لهم حرية العبادة. ولم تتردد الدولة في إنشاء دور عبادة للجاليات المقيمة، سواء كانت من الطائفة البوذية، السيخية، المسيحية..الخ، كما أن مشروع «بيت العائلة الإبراهيمية» الذي -يشمل مسجداً وكنيسة وكنيساً يهودياً - يؤصل مفهوم التسامح، ويجعل الإمارات واحةً للتسامح العالمي. وسياسة الإمارات التي ترسخ التسامح هي بمثابة سلوك حضاري ضروري للعيش المشترك بين البشر.
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية.