تكتسب زيارتا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة أهمية فائقة، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل، أولها تاريخي، وثانيها بنيوي، وثالثها يتعلق بالتوقيت.
أما السبب التاريخي فهو أن الاتحاد السوفييتي الذي كانت روسيا عموده الفقري، لعب دوراً بالغ الأهمية في الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الثانية، من خلال مساندة حركات التحرر في البلدان العربية، ومن خلال جهود التنمية فيها. ولا ننسى المواقف السوفييتية من قضايا ككسر احتكار الغرب توريد الأسلحة إلى البلدان العربية، ومعركة تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر.. إلخ.
أما على الصعيد البنيوي فمن المسلم به أن نموذج القيادة في النظام الدولي يؤثر تأثيراً قوياً على الدول الأعضاء فيه، فكل من النموذج التعددي والثنائي للقيادة يمكن أن يوفر هامشاً واسعاً لحرية الحركة للدول الأخرى شريطة وجود تناقضات على مستوى الدول القائدة للنظام، بمعنى أن تعدد هذه الدول لا يفيد الدول المتوسطة أو الصغيرة شيئاً إذا كانت قيادة النظام على قلب رجل واحد، كما كان الحال في معظم مراحل الحقبة الاستعمارية، وهو ما بدا واضحاً في موقف القوى الاستعمارية التي كان التنافس مستعراً بينها في الصين، لكن نشوب ثورة البوكسر الوطنية عام 1900 أدى فوراً إلى توحد تلك القوى ضدها. ثم أتاح نظام القطبية الثنائية بعد الحرب العالمية الثانية هامشاً معتبراً لحرية الحركة للدول المتوسطة والصغيرة، نتيجة التناقض السوفييتي الأميركي، غير أن بداية الانفراج في العلاقات بين القوتين العظميين منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي قلل كثيراً من حرية الحركة هذه. ونذكر في هذا السياق اتفاقهما في عام 1972 على تحقيق «الاسترخاء العسكري» في الشرق الأوسط وهو استرخاء كسرته حرب أكتوبر 1973، وعندما تحول «الانفراج» إلى «وفاق» في عهد جورباتشوف اختفى الهامش المتاح لحرية حركة القوى المتوسطة والصغيرة.
ثم تفاقمت الأمور بتفكك الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي، خاصة أن القوة الروسية أصابها قدر من التراجع. وفي ظل الأحادية القطبية وغياب أي كابح للإرادة الأميركية، اتُخذت قرارات كانت لها تداعياتها الكارثية، كغزو أفغانستان وغزو العراق، ويكفي أن الغزو الأخير هو المسؤول الأول عن استفحال النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين. وقد ساد نموذج الأحادية القطبية الذي روّج البعض لاستمراره عقداً كاملا من الزمن، وبدأ يتآكل باستعادة روسيا قوتها اعتباراً من مطلع القرن تحت قيادة الرئيس بوتين الذي استطاع إعادة روسيا إلى موقع قيادي في النظام الدولي، كما تبدى ذلك في أزمات إقليمية وعالمية، من جورجيا وأوكرانيا إلى سوريا التي قبلت دعوة نظامها الحاكم إلى التدخل ضد محاولات إسقاطه، وقد نجحت روسيا في ذلك التدخل، وباتت صاحبة الكلمة الأولى في الصراع.
المهم أن ثمة نقاط التقاء كافية للبناء عليها، بما يعزز تحقيقنا لأهدافنا. ولا ننسى أن الموقف الروسي الراهن من قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، ومن الحفاظ على الدولة الوطنية العربية، يكاد أن يتطابق مع المواقف العربية الرسمية.
ورغم كل شيء فإن قيمة القوة «الموازنة» على قمة النظام الدولي تبقى أساسية، وقد نُسِب للزعيم الهندي نهرو، أحد الزعماء الثلاثة لحركة عدم الانحياز في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، القول: «لو لم يكن الاتحاد السوفييتي موجوداً لاخترعناه»، في إشارة إلى أهمية القوة «الموازنة» في قمة النظام الدولي. وتبدو هذه الأهمية أكثر إذا أخذنا توقيت الزيارة الحالية في الاعتبار، فهي تتم في وقت تمر فيه المنطقة بحالة من التوتر الذي قد يفضي إلى صدام. وفي هذه الظروف سوف يكون من المفيد الاستماع إلى الأفكار الروسية بشأن تهدئة التوتر والخروج من الأزمات الراهنة والتفاعل مع هذه الأفكار.