يوازن الإنسان على مدى تاريخه العام بين مخاوفه وسعيه إلى البقاء وتحسين البقاء، وبين البحث والتأمل ليحمي نفسه من نفسه ويهذّبها ويرتقي بها، وفي أحيان يكون العكس، إذ البحث والتأمل يقود الإنسان إلى الخطأ والمجهول، فيحمي نفسه بغرائز البقاء. ولو حاولنا اليوم أن نستخدم طاقاتنا الإنسانية الأصلية هذه ونفكر في متوالية أعمالنا وحياتنا وعلاقاتنا، وما نحب أن نكون وما يجب أن نفعله لنكون ما نحب، فقد ننشئ أفكاراً واستنتاجات مهمة لنا ولمجتمعاتنا، والحال أنه في ظل عدم اليقين السائد لا يكاد يتميز أحد في تقدير المستقبل إلا بما يملكه من سؤال وخيال وتركيز! وهكذا أيضاً تصعد الفلسفة بما هي ابتداء السؤال والبحث عن المعرفة وإدراك حقائق الأشياء، فحين يعجز العلم عن الإجابة تصعد الفلسفة، والعكس صحيح أيضاً، إذ تتوارى الفلسفة عندما يمكن للعلم أن يقدم إجابة.
إلى أين تمضي بالأمم هذه المعرفة المتدفقة والمتاحة؟ في هذه الشبكية يمكن للإنسان أن يحصل على المعرفة في كل مجال ومن مصادر هائلة بلا حدود لغوية أو جغرافية، لا يحتاج لأجل ذلك ولا يحدّه سوى الوقت، هكذا ففي قدرة الإنسان - كل إنسان - أن يكون ما يحبّ أن يكون عليه من معرفة ومهارات، وأن يحيط بكل ما يدور حوله من أحداث ومستجدات، وينشئ اهتماماً عميقاً بالعالم، يمضي الناس جميعاً نحو المساواة، فالفروق بين الناس في المعرفة وما ينشأ عنها من كفاءة وفرص تقل وتمضي إلى التلاشي، ثم وبطبيعة الحال تنشأ مساواة اجتماعية وسياسية. ويمكن من خلال الشبكية تطبيق المساواة هذه على نحو عملي، إذ تتيح الشبكة لجميع الناس القدرة على الإسهام في القضايا والآراء المشتركة واتخاذ القرارات والتصويت عليها، من غير حاجة إلى اجتماع فيزيائي، أو إنشاء مؤسسات وسيطة. إن البرلمانات والمجالس البلدية والنقابات المهنية، تحتاج أن تبحث عن صيغة جديدة للعمل تتفق مع الفرص والآفاق التي أنتجتها المساواة والشبكية.
ويمكن الملاحظة اليوم كيف بدأت هذه المساواة تأخذ بالفعل تمظهرات وأبعاداً تطبيقية، فالناس جميعهم قادرون اليوم على التأثير في القضايا والاتجاهات والأفكار والأحداث، من خلال شبكة التواصل، وعلى قدم المساواة ودون حواجز مادية، إذ يستطيع كل إنسان أن يقدم ما لديه وما يفكر فيه إلى العالم كله بلا حواجز أو معوقات مادية أو تنظيمية. لم يعد يحكم المشاركة العامة والتأثير في الفضاء العام سوى القانون وضمير الفرد، إذ في مقدور كل إنسان تقريباً أن تكون لديه منصته الإعلامية التي تقدم بالنص والصوت والصورة على قدم المساواة مع المحطات والمؤسسات الإعلامية الكبرى.
ونلاحظ اليوم أيضاً العدد الكبير جداً للكتاب والأدباء والمؤثرين في شبكات التواصل ومواقع الإنترنت، ومعظمهم ممن لم ينشر من قبل من خلال صحف ودور نشر ومؤسسات إعلامية تقليدية، وبالطبع فإنها ظاهرة تتضمن الكثير من الفوضى وتدني المستوى في المضمون والمحتوى، كما أنها مثلت فرصة للإشاعات وغسيل الأموال والتهريب والنصب والاحتيال ونشر الفوضى والاتجار بالبشر والإساءة والتطرف والإرهاب.. وهذا يقود إلى سيناريو مستقبلي آخر، إذ لابد أن الأمم تفكر اليوم كيف تحمي نفسها من سموم الشبكية بالقدر الذي تتساءل كيف يمكنها توظيف الفرص المتاحة في الشبكية؟
كما أنشأت الإتاحة ومشاعية المعرفة المساواة، فإن تنظيمها وتداولها ينشئ الثقة، وفي العمليات الواسعة للبيع والشراء والتسويق التي تجري اليوم، يحمي المتداولون والمستخدمون أنفسهم بالثقة، إذ أن المعلومات والسلع والخدمات تتدفق اليوم وتكتسب مصداقية وقبولاً بقدر ما تحظى به من ثقة، وكذلك الأمر بالنسبة للأفراد والمؤسسات المستخدمين للشبكة. ففي هذه الثقة التي يبينها المستخدم والمستفيد، يمكن إجراء عمليات تحكم وفرز تلقائية ومتراكمة للغث من المفيد. وبالطبع فإن القوانين والعدالة الشبكية تأخذ أبعاداً مؤسسية وتنظيمية، ويمكن في مقالات قادمة عرض التطورات المؤسسية للتنظيم والبروتوكول الشبكي والعقود والأعمال والاتفاقيات والمؤتمرات، كما تتطور على نطاق واسع ومؤسسي عمليات الأمن الشبكي (السيبراني) ويتزايد العاملون في هذا المجال، ولعله القطاع الأكثر جذباً اليوم وفي المستقبل القريب للعاملين.
ويمكن أن تتحول الثقة إلى ثروة ورصيد حقيقي وموثق للتداول والبيع والعمل والشراء، إذ يمكن أن يظهر تلقائياً في هوية المستخدم للشبكة مستوى الثقة التي يحوزها، والذي يتأثر بالتزامه أو خرقه لمبادئ وبروتوكول العمل والتداول سواء في الشبكة أو في الأعمال والمؤسسات المرتبطة بالشبكة (لم تعد هناك مؤسسة غير مرتبطة بالشبكة)، وسينشئ ذلك بطبيعة الحال رقابة ذاتية، حتى لا يفقد الإنسان الثقة أو لكي يزيد رصيده، أو ليتجنب الحظر من الاستخدام والفوائد الممكنة في الشبكة وفي الأسواق والمؤسسات أيضاً، إذ قد يتحول الانتهاك لقواعد العمل والثقة إلى وصمة واضحة يدركها فوراً المشتغلون في الأمن والأسواق والمؤسسات والشبكة.
*كاتب وباحث أردني