في مدينة موستار، إحدى كبرى مدن البوسنة، توجد فرقتان رسميتان لإطفاء الحريق؛ واحدة تعمل حصراً في المنطقة الشرقية من المدينة حيث السكان من المسلمين، والثانية حصراً في المنطقة الغربية حيث السكان من المسيحيين الكاثوليك (الكروات).
لا يوجد خط رسمي يفصل المنطقتين، لكن السكان في شطري المدينة يعرفون أين تبدأ منطقتهم الآمنة وأين تنتهي.
وإلى جانب فرقتي الإطفاء توجد في موستار شركتان لجمع النفايات، واحدة تعمل في المنطقة الإسلامية وأخرى تعمل في المنطقة المسيحية، فحتى النفايات لا تختلط هناك! كما توجد محطتان لتوليد الطاقة الكهربائية ومستشفيان، واحد للمسلمين والآخر للمسيحيين. وتوجد فرقتان لكرة القدم كل منهما على استعداد للدخول في منافسات مع أي فريق في العالم، باستثناء الفريق الآخر في المدينة ذاتها!
فهل البوسنة دولة واحدة؟ وكيف يمكن العيش في ظل هذه الحالة الشاذة؟ وهل يمكن التخلص منها؟
إنه واقع أفرزته الحرب الأهلية التي عصفت بالبوسنة بين عامي 1992 و1994، وهو لا يقتصر على موستار أو حتى على البوسنة وحدها، بل بدأ يعيد رسم «الحدود الآمنة» في العديد من الدول الأوروبية شرقاً وغرباً، بل وفي الولايات المتحدة أيضاً. فالشعبوية الإلغائية للآخر المختلف (دينياً وعنصرياً) تتمدد وتتعمق جذورها لتطوي صفحة التسامح والتعايش التي فتحتها معاناة الحرب العالمية الثانية والمشاعر التي خلّفتها.
لم تنتج الانتخابات التشريعية البوسنية، في أكتوبر 2019، مجلساً برلمانياً جديداً، بقدر ما رسمت علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كانت البلاد قادرة على الاستمرار كدولة اتحادية بين البوسنيين (المسلمين) والكروات (الكاثوليك) والصرب (الأرثوذكس). ويرسم علامة الاستفهام هذه نجاحُ المتشددين من الفئات الثلاث الذين يرفعون شعارات تناقض مبدأ العيش المشترك أو حتى العيش معاً جنباً إلى جنب.
لقد عجزت أوروبا عن التعامل بإيجابية مع أزمة البوسنة لدى انفجارها بعد تمزق الاتحاد اليوغسلافي. ولم تكن أوروبا في حينها (1992) تنخرها من الداخل الشعبويات الوطنية المتطرفة كما هو حالها اليوم. لذلك فهي الآن أشد عجزاً، بل لعلها أقل إيماناً بالعمل على تشجيع التعايش بين المكونات البوسنية إذ لا تستطيع أن تقدم مما لا تملك.
وفي عام 1994 غطت الولايات المتحدة (إدارة بيل كلنتون) العجز الأوروبي بتدخلها السياسي والعسكري. واستطاعت ليس فقط وقف الحرب الأهلية والمذابح الطائفية، ولكنها أيضاً قدّمت الحلول السياسية الوفاقية (مؤتمر دايتون) وجسدها عبر قيام الاتحاد الثلاثي في البوسنة الذي يترنح اليوم تحت ضربات التطرف الفئوي.
لكن مع الغياب الأوروبي والأميركي، فإن الحضور الذي قد يفرض نفسه لدى أي انفجار محتمل في المستقبل القريب يتمثل في روسيا وتركيا. الأولى تقدم نفسها كحامية للصرب، والثانية تعتبر نفسها حامية البوسنيين. ومن شأن ذلك إعادة البلدين إلى البلقان على النحو الذي كان قائماً عام 1930، إذا استطاعتا التفاهم على تقاسم الجبنة البلقانية غير الخالية من السم في الدسم.
ولم يكن اتفاق دايتون المستمر حتى اليوم تسوية نهائية، بل كان تسوية مؤقتة وتمهيدية للتسوية النهائية. لكن المؤقت استمر ربع قرن حتى الآن. ولأن التسوية لا تتضمن حلاً دائماً، فإنها معرضة للسقوط، من غير أن يكون هناك بديل. وهنا مصدر القلق.
إن النظرية القائلة بأن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى تبدو معكوسة تماماً في البوسنة. فالسياسة هي ما يبدو استمراراً للحرب بوسائل أخرى، والبوسنة منذ عام 1994 ليست في حالة سلام، لكنها في حالة «لا حرب». إن أي احتكاك بين المجموعات الاثنية الطائفية سيولد انفجاراً كبيراً، لا يملك الغرب قدرة منعه أو حتى احتواء مضاعفاته.
يفصل بين شطري موستار شارع عريض يسميه البوسنيون «شارع الثورة الشعبية»، والكروات «شارع المدافعين عن كرواتيا»..
ويشكل الاختلاف حتى على اسم الشارع، عنواناً للخلاف على مبدأ العيش معاً.