«هنا نصلي معاً»، هذا الشعار الذي أطلقته الأيدي البيضاء الخيّرة، خلال احتفالية سانت كاترين لتسامح الأديان، بمثابة نداء لتلبية قصوى الاحتياجات المجمع عليها، والتي تصب في نهر مصالح البلاد والعباد، مناديةً بالتسامح ومعليةً صوتها على ما سواه، ولتقف وقفة جادة في وجه التطرف والعزلة مناديةً: «حيّ على الوئام». ليتجلى ذلك في صورة بهية تتكاتف فيها قيم الخير والمحبة والتسامح الذي يعد عاملاً مشتركاً بين الأديان كافةً. وتفعيلاً لأسس المواطنة، كركيزة لبناء الإيمان بالوطن والرفع من روح الانتماء للبلد والهوية الوطنية، ذلك أن التسامح كان ولا يزال، الركيزة الجوهرية الأولى لسمو للوئام الوطني، الذي يعد مبدأ «تقبل الآخر»، واستثمار «ثروة الاختلاف» العمود الفقري له.
هذا اللقاء تكريس حقيقي لمبدأ الحوار مع الآخر بدلاً من العنف والإكراه، إذ كيف يكون للمجتمعات تحقيق التسامح بعد ما يزيد على خمسين عاماً على التزام الدول الموقّعة على ميثاق الأمم المتحدة بـ «ممارسة التسامح والعيش بسلام مع بعضها البعض في جوٍ من حسن الجوار»، وبعد مرور أكثر من قرنين على المعركة الفلسفية المحتدمة التي قادها «فولتير» ضد التعصب الديني وضد التزمت والظلم اللذين يشرعهما التعصب، لتنبض من قلب سيناء «بوصلة تعانق الديانات» الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، رسالة موجهة لكل بقاع العالم، بنقل التجربة المصرية المتميزة في احتضان سماحة الأديان، بكافة جوانبها التاريخية والإنسانية والثقافية والفنية.
وما أحوج العالم اليوم لمثل هذه اللقاءات المجتهدة، ولإطلاق مبادرات السلم، الساعية بلا تردد لصياغة جديدة تَفهم وتُفهِم العقول، وتجسر الهوة الثقافية والحضارية بين مختلف المكونات، مشيدةً حصن منيع من الثقة المتبادلة بين الشباب وحكوماتهم لغد أفضل، ولا يعد ذلك إلا استعادةً لنبض التراث الإسلامي «النقي»، والذي شهدنا على خطاه ما قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة، في مبادراتها المعطاءة، في نشرها لقيم التسامح وتأصيل لثقافة السلم، معيدةً نبض تراث الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه -. ومستكملة بهمة شيوخها الأكارم درب الأمن والأمان، ومن ذلك توقيع «وثيقة الأخوة الإنسانية»، على ثراها الطاهر بين قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، ممثلةً النور الأول لتطوي ظلمة الحروب بين الطوائف والدول، وموظفةً للنوايا الحسنة لإخماد حرائق الفتن التي غالباً ما تستغل «هزيلي الأدمغة»، ولتنهض بالمجتمعات لأنموذج راسخ من «إدارة الأزمات» إلى تحسيس المجتمع الدولي من أجل«التدخل السريع لحلها».
إضافةً لما وجدت المجتمعات من جهود حثيثة في دعم والدفع ومساندة منظومة ال«مجتمع الواحد» وأقصد بذلك «المتحد» والمتسامح والمتعاضد، ومن ذلك ما جاء في «إعلان مراكش» الذي أكد على تسامح الدين الإسلامي مع الأديان السماوية الأخرى، ليسمو هذا الإعلان، كإحدى الوثائق المعتمدة في أروقة الأمم المتحدة ومجالس حقوق الإنسان العالمية بفضل العمل الدؤوب الذي يقوم به العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة».
وعندما نتطرق للوسائل التي تمكننا من تحقيق هذا المعنى السامي والضرورة النهضوية، فإننا نبدأ من اعترافنا بحقوق الإنسان العالمية وبالحريات الأساسية للآخرين، لا التساهل أو التراخي وعدم الاكتراث، فعلينا أن نعي أننا بصدد تحقيق الضمان لبقاء المجتمعات بغناها التنوعي في مناطق العالم شتى، ومن هنا كان لزاماً العمل على التربية من أجل التسامح، وهنا نعني المنظومة التعليمية، وما تحويه من مبادرات ومناهج وأنشطة ومسابقات، ودعم معرفي للنهوض بالوعي المجتمعي الذي يضم النشء من الأجيال، وتمعن اهتمامها في الشباب وتطوير قدراتهم لإصدار الأحكام المستقلة وتحفيز التأمّل الناقد والتفكير الأخلاقي. ولا يجدر بتنوع الديانات واللغات والثقافات والإثنيات في عالمنا أن يشكّل حجة لنشوب الصراعات بل هو بالأحرى كنز تغتني منه البشرية جمعاء. وليكون ثمرة ناضجة للجهود العالمية والمؤسسات الحقوقية، وتسخير العمل الدؤوب للوصول إلى التسامح في مجتمعاتنا، من خلال ترسيخ ثقافة التسامح وتحويلها إلى حالة اجتماعية، وضرورة حياتية.