يخلط الكثير من الناس، وجزء منهم صحفيون وإعلاميون، بين مفهومي الدولة والنظام السياسي. لكن مفهوم الدولة يشير إلى بناء عقلي يتحقق في التاريخ، يقوم على حقوق الفرد ونظام الأسرة والتكوين الاجتماعي للشعب، أي الأساس الإنساني للدولة ونظام الحكم معاً. أما النظام السياسي بمفرده فهو الشكل الأخير لبناء الدولة.
وفي التجربة الغربية هناك تقابل بين الدولة والنظام السياسي، فالدولة باقية والنظام السياسي متغير طبقاً للقوى السياسية المهيمنة ديمقراطياً في البلاد. ويبقى النظام السياسي طالما كان متطابقاً مع بناء الدولة، لكنه يقع إذا ما تصادم مع ذلك البناء.
الدولة واحدة وباقية، ونظمها السياسية متعددة متغيرة على مر الزمن. فمصر هي مصر، وقد توالت عليها النظم الفرعونية والقبطية واليونانية والرومانية والإسلامية والغربية الحديثة (الليبرالية الرأسمالية والقومية الاشتراكية). الدولة لها اسم ثابت على مر التاريخ، مثل مصر والعراق وسوريا واليمن وتونس والمغرب.. وهي دول تاريخية، أما النظم السياسية فتتغير أسماؤها من «مصر» إلى «مملكة مصر» إلى «دولة مصر» إلى «جمهورية مصر» إلى «الجمهورية العربية المتحدة» إلى «جمهورية مصر العربية». الدولة باقية عبر الزمان ومراحل التاريخ، فمصر لها اسمها العربي المذكور في القرآن الكريم: ‏«اهْبِطُوا ?مِصْرًا ?فَإِنَّ ?لَكُمْ ?مَا ?سَأَلْتُمْ»، ?واسمها ?اليوناني «?ايجبتوس» ?الذي بقي لها ?في ?اللغات ?الأجنبية.. ?أما ?النظام ?السياسي ?فهو ?ابن ?وقته ?كما ?يقول ?الصوفية، ?طبقاً ?لموازين ?القوى ?داخلياً ?وخارجياً. ?
?الدولة ?هي ?«ظل ?الله ?في ?الأرض»، ?كما ?يقول ?هيجل ?بحثاً ?عن ?أساس ?فلسفي ?لبناء ?الوحدة ?الألمانية، ?أما ?النظام ?السياسي ?فقد ?يكون مع الناس، يحقق مصالحهم، وقد يكون ?ضد ?الناس ?وكاتماً لأنفاسهم، كما تفعل حكومات كالآبارتيد ?والنازية ?والفاشية ?والصهيونية ?والطائفية ?وتقسيم ?الدين ?الواحد ?إلى ?طوائف ?متناحرة ?أو خلق حروب وتناقضات ?بين ?الأديان.. وكل ذلك ?من ?فعل ?الأهواء ?الإنسانية ?الشريرة، ?في ?حين ?أن ?التسامح ?والمحبة ?والاحترام ?المتبادل، ?والاعتراف ?بحقوق ?الآخرين.. ?من ?فعل ?الفطرة ?الإنسانية ?السمحة. ?
الدولة ?كبناء ?صوري ?بريئة ?من ?خرق ?حقوق ?الإنسان، ?وعدم ?المساواة، ?والفساد ?والتهريب وجرائم الحرب.. لكن بعض ذلك قد يكون من فعل ?النظم ?السياسية ?حين تجنح إلى استبداد. أما إذا ?كان ?الحكم ?يمثل ?الأغلبية ?فتلك هي ?الديمقراطية. بيد أن ?الدول ?لا ?تكون ديمقراطية ?ولا ?استبدادية، ?بل يتعلق الوصفان ?بالنظام ?السياسي، ?ولا ?توجد ?دولة ?ناعمة ?وأخرى ?خشنة، ?بل ?هو ?النظام ?السياسي ?أو ?السياسات ?التي ?يتبعها. والدول ليست السلطة التنفيذية (التي كثيراً ما تبتلعها)، وليست السلطة التشريعية (التي تشرع لها)، ولا تتبع النظام السياسي.. بل هي السلطة التي تحمي حقوق الأفراد والمجتمع، ويخضع الجميع لها باعتبارها ممثلة للقانون. وقد قيل عن القضاء إنه لا يجوز التعليق على أحكامه، لاستقلاله ونزاهته وقيامه على العدل. وفي الأمثال «العدل أساس الملك»، وصورته على واجهات المحاكم الميزان، تذكيراً بالعدل الإلهي وميزانه القسط الذي لا ظلم فيه ولا جور.
الدول هي الأوطان، أي ما يأمل الإنسان تحقيقه من خير وعدل. لكن قد تتحول الدول إلى نظم سياسية، فتجذب مواطنيها وتحتضنهم أو تطردهم وتبعدهم نحو المهاجر والملاجئ، ويظل الحنين إلى الأوطان هو الحامي للدول.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة