كما كشفت الاحتجاجات الشعبية فشل النظام العراقي، ها هي الاحتجاجات في لبنان تفضي إلى الخلاصة ذاتها. ما أن خرج المتظاهرون إلى الشارع وأقفلوا الطرق وهتفوا «لتستقل الحكومة»، «ليسقط النظام».. حتى شعر الطاقم السياسي كما لو أنه ضُبط متلبساً. ربما لم يفاجأ بمستوى السخط، لكنه فوجئ بتوقيت التحرك وسرعته وكثافة حشوده وانتشاره الجغرافي ونبذه جميع الأحزاب وشموله مختلف البيئات الطائفية، فضلاً عن اقتصاره أولاً على الشبان والشابات. لم يكن اقتراح ضريبة على «الواتساب» سوى الشرارة، ولم تكن شرارات الحرائق التي اشتعلت في العديد من المناطق قد انطفأت بعد، آكلةً الأخضر واليابس، وزارعةً اليأس والإحباط في النفوس. ثمة سوابق لهذا الحراك غير أنها انتهت جميعاً إلى اللا نتيجة، إذ اخترقتها الأحزاب لتسييسها وحرْفها عن أهدافها. هذه المرة لم تكن هناك جهة داعية أو منظمة، بل مجرد نداءات «سوشال ميدية» تلاقت مع الغضب الكامن.
وفي كلمته المتلفزة المرتقبة، بعد أربع وعشرين ساعة على انفجار الشارع، لم يرد سعد الحريري على المتظاهرين الذين دعوا إلى استقالة حكومته، بل وقف بينهم وبين زملائه في الطبقة السياسية ليقول إن النهج السلبي لهؤلاء وراء غضب أولئك. وإذ لم يجار نظيره العراقي عادل عبد المهدي بالقول أن «لا عصا سحرية» لديه، فإنه على العكس؛ عرض ما فعله وما يعتزمه من أجل الإصلاح الاقتصادي حيث واجه الكثير من المماطلة والتعطيل من جانب شركائه في الحكومة. وكان جبران باسيل، أكثر المعطّلين شهرة، سبقه إلى التعليق على الاحتجاجات، لكن بلهجة أقرب إلى لوم المتظاهرين وتقريعهم منها إلى الإقرار بالمسؤولية. أما أكثر المعطلين فاعلية من وراء الستار، أي «حزب الله»، فراح يبدي تضامناً مع مطالب المحتجّين، لكن خطاب أمينه العام حسن نصرالله بدا مستهيناً بهذه المطالب وحريصاً على حسم أمرين: لا سقوط لرئاسة الجمهورية، ولا للحكومة. وفي ذلك إشارة جديدة للداخل والخارج بأن «الحزب» هو مَن يمسك بخيوط الحكم!
لكن المعضلة التي كانت معروفة وكشفها الشارع هي أن صيغة الحكم لم تعد قادرة على تحقيق الإصلاحات الضرورية طالما أن أطرافها تصرّ على فرض مصالحها، وبالتالي تتبادل التغطية على بعضها بعضاً. فعند الحديث عن قطاعٍ أو نشاطٍ ما يُشار إلى فريق سياسي مستفيد، كالكهرباء مثلاً التي تُعتبر أحد أهم مصادر الهدر المالي (مليارا دولار)، أو الأملاك التابعة للدولة وتسيطر عليها جهات سياسية وتستثمرها دون أي مردود عام، أو التهريب الممأسس الذي يحرم البلد من موارد (أكثر من ملياري دولار) وتستغلّه فئات سياسية ذات سطوة عسكرية عبر منافذ شرعية وغير شرعية.. يُضاف إلى ذلك أن صيغة الحكم هذه، وهيمنة «حزب الله» عليها، باتتا تهدّدان المساعدات الدولية ومشروع «سيدر» الذي تعهّد عدد كبير من الدول بموجبه بتمويل مشاريع أعدّتها الحكومة لإنهاض الاقتصاد وتمكينه من تحقيق نمو كان وما يزال صفرياً منذ أعوام طويلة.
الواقع أن استقالة الحكومة لا تحمل في حدّ ذاتها أي حل جدي، ما لم يُتفَق مسبقاً على حكومة تكنوقراط أو «حكومة إنقاذ» مصغّرة يجري تشكيلها في وقت قصير، ذاك أن الاستحقاقات التشريعية (الموازنة والإصلاحات) داهمة، ليس فقط وفقاً للدستور بل أيضاً لارتباطها بالمساعدات الخارجية، وهي التي يعوّل عليها كـ«أوكسيجين إنقاذ». من هنا فإن عمليات التعطيل التي أشار إليها الحريري جعلته يشكك في أهداف شركائه في الحكومة ويحدد لهم مهلة 72 ساعة لحسم مواقفهم من الإصلاحات. ربما تساعده هذه المهلة، معطوفة على ضغط الشارع، في تصويب المسار إذا جاءت الأطراف المعطّلة بتنازلات واستعداد للتعاون.
لكن مواقف «حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحرّ» (حزب رئيس الجمهورية)، أثارت الخشية من محاصرة رئيس الحكومة ومحاولة الالتفاف على الورقة الاقتصادية العاجلة التي يقترحها، وبالتالي إبقاء الحكومة من دون أي ضمانات لتغيير حقيقي في نهجها. لذلك جاء قرار حزب «القوات اللبنانية» باستقالة وزرائه ليضغط على الحريري ويؤكّد منطق أن الحكومة الحالية فقدت قدرتها على العمل. المشكلة أنه إذا كان الفشل السياسي الاقتصادي هو ما قاد إلى الأزمة الراهنة، فإن الفشل في إدارتها قد يقود إلى جمود حكومي أو فوضى تشوبها مخاطر أمنية أو انهيار اقتصادي، ومثل هذه الحال سيعتبرها «حزب الله» تفويضاً له لمزيد من الهيمنة على الدولة اللبنانية.