من انتصر ومن خسر في الانتخابات التونسية البرلمانية والرئاسية؟ قد يكون التساؤل دقيقاً ومركباً، لكن يمكن من خلال ما أفرزت النتائج على تناقضاتها بين البرلمانية والرئاسية، وبين صعود هذا الحزب أو تقهقره دلالات يمكن لتبيانها الرجوع إلى العمليات السابقة منذ 2011 وحتى اليوم، والمقارنة بينها. والمعروف أنه بعد وضع القانون النسبي للانتخابات استنبتت الأحزاب أعداداً بطولها وعرضها، لتصل إلى نحو 200 حزب، فأراد صناعها أن يجربوا حظوظهم في الانتخابين بل كأن كل رئيس حزب تليد أو جديد بات مرشحاً للرئاسة الأولى. إنها لعبة الأحزاب التي تجاوزت في تونس قواعد نظام الحزبين في أميركا أو بريطانيا، أو التعددية في فرنسا وسواها. وهذا يفسر شرذمة الأرقام والبيانات والنتائج البرلمانية. على أحزاب متشددة أو جديدة. بل كأن فائض الكثرة قد يعود إلى نوع من الانفجار الديمقراطي بعد سيادة الحزب الواحد في تونس في عهدي بورقيبة وبن علي، وانفجار من هذا النوع قد يكون صرخة أحياناً أو إنجازاً أو فوضى...
وإذا كانت الانتخابات البرلمانية أعطت ما أعطت لحركات وأحزاب وشكل ذلك فسيفساء مصغرة متضاربة، فإنها ويا للغرابة كانت عقاباً لكل الأحزاب التي تزعم أنها خارجة من رحم الثورة 2011، وتسلمت السلطة على امتداد الفترة السابقة حتى اليوم، أو تلك المستحدثة. لكن الضربة الأقوى والأفدح تلك التي أصابت الأحزاب المحترفة في السلطة والتي خرجت على الروح الديمقراطية وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وقد تكون هذه الضربة قاضية لأن الفساد انتشر والبطالة. فالشعب الذي انتخبهم حاسبهم وأصدر أحكامهم عليهم في الانتخابات.
والدليل أن الانتخابات البرلمانية، رغم توزع الأصوات فيها، أظهرت تراجعها كلها، خصوصاً «النهضة» الإخوانية التي وإنْ تصدرت النتائج بأربعين مقعداً، فإنها سجلت تراجعاً قاسياً منذ عام 2011.. وهذه النتيجة بيان واضح لهذا التراجع: وبمقارنة هذا الرقم بنتائج 2011 أي 89 مقعداً ثم حصولها عام 2014 على 69 مقعداً، نجد أنها تراجعت عمودياً وأفقياً بأكثر من النصف (أي بما مجموعه نحو أكثر من مليون صوت). والمفارقة الثانية تمثلت في حزب «نداء تونس» للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الذي نال مقعداً واحداً في البرلمان مقابل 86 مقعداً عام 2014. لكن النتيجة المفاجئة تلك التي حققها حزب «قلب تونس» الذي أسسه قبل أشهر عدة فقط نبيل القروي ونال المرتبة الثانية بعد النهضة بـ 35 مقعداً رغم أن رئيسه قابع في السجن وعاجز عن إدارة معركته الانتخابية.
هذه النتائج صنعها الشعب التونسي، خصوصاً الشباب. هذا الشعب الذي عانى من السلطة السابقة ما عاناه من عوزٍ، والشباب الذين يعيشون أوضاعاً صعبة من البطالة وانسداد الأفق في وجههم من دون أن ننسى تطلعاتهم الجديدة لتطوير الدستور والنظام، كانوا نجوم الانتخابات وعصبها وقلبها وعقلها النضر. إنها صرخة اليأس أطلقها هؤلاء الشباب من كل الطاقم القديم ومن سياسته الفاشلة في إدارة البلد ومعالجة الأزمات. وإذا كان «حزب النهضة» حاول الالتفاف على سقوطه المتدرج والدراماتيكي منذ 2011 واعتماد لعبة الإيهام المسرحي بتصوير نفسه منتصراً، فهذا دليلٌ على معضلةٍ لا تقتصر على ممارسته، بل على وجوده بالذات، بل طاولت لعبته التضليلية محاولة استيعاب الرئيس الفائز قيس سعيّد بتبني ترشيحه لكي يصور للناس بأنه وراء انتصاره، وأنه قد يكون حليفه. لكن حصول قيس سعيّد على 74% من الأصوات (و90% من الشباب)، فضح ادعاء «النهضة»، وجعل دعمها له قطرة ضاعت في المحيط البشري.
فهل تمكن الرئيس الجديد من معالجة التشرذم البرلماني من خلال تأليف الحكومة ويحاول تغيير المعطيات الهشة في الواقع السياسي وهي معقدة ومتداخلة...فالتحديات قاسية وانتظارات الشعب أقسى.