يتسبب التلوث المرتفع للهواء في زيادة تقدر بالمئات من حالات الإصابة بالأزمات القلبية، والسكتات الدماغية، وبنوبات الأزمة الشعبية، حسب دراسة صدرت مؤخراً عن المركز البحثي المرموق «كينجز كولدج» بالعاصمة البريطانية. وتوصل فريق العلماء القائم على الدراسة لاستنتاجهم هذا، بناء على معلومات وبيانات تم جمعها من تسع مدن بريطانية، هي لندن، وبيرمنجهام، وبريستول، وديربي، وليفربول، ومانشستر، وأكسفورد، وساوثامبتون، وأظهرت جميعها أن في الأيام التي ترتفع فيها مستويات تلوث الهواء فوق المعدلات الطبيعية، يزداد مجمل حالات الإصابة بالأزمات القلبية الشديدة بمقدار 124 حالة.
وبخلاف الأزمات القلبية الحادة، أظهرت البيانات أن الأيام التي يرتفع بها تلوث الهواء في المدن التسع سابقة الذكر، تتميز أيضاً بارتفاع في عدد حالات الإصابة بالسكتة الدماغية بمقدار 231 حالة، وبارتفاع مماثل في عدد حالات الإصابة بالربو أو الأزمة الشعبية بين البالغين والأطفال على حد سواء، وبمقدار 193 حالة.
وتأتي نتائج هذه الدراسة الأخيرة، على خلفية الإدراك المتزايد بكون تلوث الهواء من أخطر أنواع التلوث، وأكثرها انتشاراً على الإطلاق، حيث تقدر منظمة الصحة العالمية أن 9 من كل عشرة أشخاص، أو 90 في المئة من أفراد الجنس البشري، يستنشقون حالياً هواء ملوثاً بدرجة عالية. كما تشير التقديرات إلى أن تلوث الهواء يقتل سبعة أو ثمانية ملايين شخص سنوياً، 4.2 مليون منهم بسبب تلوث الهواء الخارجي المحيط، و3.8 مليون آخرين بسبب تلوث الهواء داخل المنازل. وتتعدد وتتنوع أسباب تلوث الهواء الخارجي، فبعضها ناتج عن ظواهر طبيعية، مثل العواصف الترابية، والنشاطات البركانية، وحرائق الغابات، وإن كانت النشاطات البشرية تعتبر المسؤول الأول عن تلوث الهواء الخارجي، خاصة في المدن.
هذا التلوث الناتج عن النشاط البشري، قد يكون من مصادر ثابتة، مثل محطات إنتاج الطاقة التي تعتمد على حرق الفحم، أو بقية أنواع الوقود الأحفوري، أو من مصادر متحركة، مثل الأنواع المختلفة لوسائل المواصلات، بما في ذلك السيارات، والطائرات، والبواخر، وتحتل عوادم السيارات مكانة خاصة على قائمة أسباب تلوث الهواء الخارجي، نتيجة احتوائها على كوكتيل من الغازات والمواد الكيماوية السامة، التي تدخل إلى مجرى الدم، ومن ثم إلى معظم أعضاء الجسم بعد استنشاقها بفترة قصيرة.
وبخلاف الوفيات المباشرة وغير المباشرة، تمتد تبعات التلوث السلبية أيضاً لتؤثر على نوعية الحياة، وعلى الحالة الصحية العامة، الجسدية والعقلية، بما في ذلك الحالة الصحية للأطفال حديثي الولادة. ففي تقرير صدر قبل عامين عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة أو «اليونيسيف»، أكد علماء المنظمة أن 17 مليون طفل حول العالم دون عمر السنة، يستنشقون هواء مسمماً، ما يعرض نمو أمخاخهم للخطر. ويعتبر أطفال جنوب آسيا الأكثر عرضة لهذا الخطر الصحي، حيث يقطن دول هذه المنطقة أكثر من 12 مليون طفل يستنشقون يومياً هواء ملوثاً بمقدار ستة أضعاف الحد الأقصى المسموح به، بالإضافة إلى 4 ملايين آخرين معرضين لمخاطر التلوث في شرق آسيا ومناطق المحيط الهادي. وقد وصلت درجة أن سوء الأوضاع البيئية في بعض هذه الدول، إلى حد إصدار توصيات بضرورة استخدام أقنعة الوجه «الماسكات» عند التواجد في الطرقات العامة، وعدم الخروج بالأطفال إلى الشوارع في أوقات الذروة، بينما عمدت بعض المدن إلى إغلاق المدارس والحضانات بشكل تام، بسبب خطورة الوضع على صحة التلاميذ.
وللأسف، تقع معظم مصادر تلوث الهواء الخارجي، خارج نطاق تحكم الأفراد، أو سلوكياتهم الشخصية، حيث غالباً ما يتطلب التحكم في هذه المصادر، تدابير وسياسات من قبل بلديات المدن، وإدارات الصناعات المختلفة، على المستويين الوطني والدولي، وفي قطاعات مختلفة، مثل قطاع النقل، وتوليد الطاقة، وإدارة النفايات، والبناء والتشييد، والقطاع الزراعي. ففي قطاع النقل مثلا، يمكن إحلال واستبدال سبل المواصلات القديمة، بتقنيات نظيفة لتوليد الطاقة، ومن خلال الاعتماد على وسائل مواصلات عامة حديثة وسريعة داخل المدن، وعبر إنشاء شبكات وطرق خاصة للدراجات الهوائية، وللمشي، بالإضافة إلى شبكات النقل بالقطارات بين المدن، سواء للبضائع أو للركاب. وحتى على صعيد بناء وتخطيط المدن والحضر، يجب أن نضع في اعتبارنا وضمن أولوياتنا، خفض الاعتماد على الطاقة، لتقليل استهلاك الوقود، ومن ثم خفض الانبعاثات الغازية، وبالتالي تحسين نوعية الهواء للقاطنين لتلك المدن، ففي ظل عدد الوفيات التي ترتبط مباشرة بتلوث الهواء، وتنوع وتعدد الأمراض التي تنتج عنه، أصبح تحسين نوعية الهواء، وخفض كمية ونوعية الملوثات الموجودة به، من الإجراءات الفاعلة والمهمة لتحسين مستوى الصحة العامة، ولتخفيف العبء المرضي عن كاهل المجتمعات الحديثة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية