منذ بداية النهضة الأوروبية الحديثة، والتي تكوّنت بالاقتباس من الحضارة الإسلامية في الأندلس، والمثقفون العرب يكتبون عن الغرب وتجربته الحضارية المهيمنة، بل رأى كثير منهم أن نأخذ من هذه الحضارة كل ما فيها. وقد جمع الباحث أحمد الشيخ رؤى كثير من هؤلاء في كتابه «المثقفون العرب والغرب»، موضحاً أنهم عرفوا الغرب عن قرب ولمسوه باليد ودرسوه في الواقع والميدان، وعرفوا أساليبه ودوافعه، كما عرفوا جيوشه الغازية ومحاولاته المستترة لنشر ثقافته.
إن علماء العرب وباحثيهم الأوائل، يقول أحمد الشيخ، هم مَن علّموا علماء الغرب العلم التجريبي ومناهجه وأصوله، وإلا لما استطاع الغرب إطلاق نهضته العلمية. فحتى الثوب الجامعي الذي تستخدمه الجامعات الغربية ليس إلا العباءة التي كان يرتديها المعلم في المسجد.
ويرى الدكتور فؤاد زكريا أن الغرب لم يكن موضوعياً في رؤاه وممارساته تجاه العالم العربي، وأنه لم يقترب منه إلا بهدف السيطرة عليه، كما يعتقد أننا لم ندرس حضارتنا بما فيه الكفاية، بل درسناها دراسة ناقصة ومشوهة.
أما الدكتور أنور عبدالملك، فيشير إلى الإحساس الذي نستشعره جميعاً، وهو أن بلداننا العربية والإسلامية تمثل أجزاء من حضارة إنسانية كبيرة شاملة ومشتركة، فيما يشعر الباحث الغربي وهو يدرس أي بلد عربي أو إسلامي، أنه أمام مجتمع بدائي لا تمكن دراسته إلا عمودياً؛ من أعلى إلى أسفل. وهي نظرة عنصرية لا يزال لها وجود وتأثير ملحوظان.
أما المفكر الليبي الدكتور علي فهمي خشيم فيقول: إن جميع الدراسات التي يكتبها طلاب عرب عن العالم العربي يتم قبولها دون استثناء وفي سائر المجالات، لأنها موثقة ومليئة بالمعلومات التي تذهب مباشرة إلى البرمجة في حواسيب دائرة المخابرات.
يقول أحمد الشيخ: لي صديق عراقي كان يدرس العلوم السياسية في بريطانية، وكانت رسالته للدكتوراه مليئة بالمعلومات المهمة عن العراق، فأخبرني أن رسالته ذهبت نسخة منها للمخابرات البريطانية. وهو ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع الدكتور سميح فرسون بقوله: إن الطالب العربي الذي يريد دراسة بعض الظواهر في المجتمع الأميركي، غالباً ما يقال له من قبل أساتذته إن هذه الموضوعات أشبعت بحثاً هنا، ومن الأفضل يقوم بدراستها في بلده.
لدينا في العالم العربي كثير من الكتاب، بعضهم يفوقون كتاب الغرب، كما يؤكد الدكتور خشيم، والذي يرى أن الكاتب الغربي يجد من يسلط الأضواء عليه ويهتم بأفكاره ويذيعها، أما العرب فمأخوذون بما يأتي إليهم من أفكار جاهزة، في حين أن لدينا كتاباً ومفكرين لا يجدون الفرصة للاعتراف بهم في الداخل ولا في الخارج.
إن كثيراً من أفكار «يكارت» كانت موجودة في كتب الجاحظ، كما أوضح لويس عوض الذي ربط بين ابن خلدون و«كونت» و«دانتي»، كما ربط بين «المعري» وفكرته عن العالم الآخر وبين عدد من المفكرين الأوروبيين.
إن جملة المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية لـ«راسل» الغربي جعلت منه فيلسوفاً عظيماً. ومع أن العقاد ترك تراثاً أضخم وأعمق من تراث «راسل»، فإنه قل من يعتبره فيلسوفاً، وكذلك طه حسين الذي خلف لنا آلاف الصفحات في مجالات الأدب والنقد والسيرة.. فلماذا يحتفون بفلاسفتهم، مثل هيجل وكانط وسارتر ونيتشه.. ويتحمسون لهم، بينما نهمل ونزدري مفكرينا؟

*كاتب إماراتي