بعض التحليلات ذهبت إلى أن الحراك الاحتجاجي الذي تعرفه حالياً بعض الدول العربية يعبّر عن استئناف ما سمي من قبل بـ«الربيع العربي» الذي اندلع قبل ثماني سنوات من تونس.
الواقع أنما يجري حالياً في العراق ولبنان مختلف كلياً عن المسار السابق الذي ارتبط بأزمات الانتقال السياسي في أنظمة الحكم التي سقطت جراء الانتفاضات الاحتجاجية، بينما يتعلق الأمر في الحالتين العراقية واللبنانية بما نراه تشكل نموذج الفرد المواطن خارج قبضة الهويات الطائفية المغلقة.
لقد ذهب الكثير من الباحثين إلى أن المجتمعات الطائفية لا يمكن أن تشهد عملية تحول اجتماعي سياسي جذري، بحكم أن معادلة السلطة فيها تتحدد من خلال توازنات محسوبة بين نخب أهلية تتحكم في القاعدة الانتخابية المرتكزة على الولاء الطائفي، ومن ثم فالمطالب السياسية فيها تظل مؤطرة بالموازين الطائفية ولا يمكنها أن تخترق حدود الهويات الاجتماعية المغلقة.
وقد بدأ نموذج «التشاركية الطائفية» في لبنان منذ الإعلان عن قيام «دولة لبنان الكبير» سنة 1920، وقننه دستور عام 1926 ثم الميثاق التوافقي عام 1943. ومع أن هذا النموذج كرّس حالة فريدة من النظام السياسي تختصر عادة بتوفر الحرية وغياب الديمقراطية بمعنى الاختيار الفردي الحر، إلا أن حدوده العملية في حفظ الاستقرار السياسي بدت محدودة منذ أزمة عام 1958 إلى الحرب الأهلية الطويلة التي انفجرت عام 1975 ولا تزال ذيولها حاضرة رغم مرور ثلاثين سنة على نهايتها المعلنة بموجب «اتفاق الطائف» الموقع في عام 1989.
ورغم المحاولات القديمة لتصور هوية وطنية لبنانية (منذ كتب بولس نجيم كتاب القضية اللبنانية الصادر 1908)، فقد ظلت المعادلة الطائفية حاجزاً مانعاً دون أن تولِّد الدولة الحديثة، على غرار كل الدول المركزية في العالم، هويةً وطنيةً جامعةً، وظل لبنان حسب عبارة المؤرخ كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة».
الجديد إذن في الانتفاضة الشعبية اللبنانية الراهنة هو كونها أول محاولة جديدة لتقويض «الدولة الطائفية»، أي الدولة التي تشكل حاضنة الهويات الطائفية ومحور صراع القوى الطائفية حسب أطروحة مهدي عامل الشهيرة في كتابه «في الدولة الطائفية».
وعلى الرغم من خصوصيات الحالة العراقية، إلا أن النموذج الذي قام هناك بعد سقوط النظام البعثي في عام 2003 لا يختلف في الجوهر عن التشاركية الطائفية اللبنانية وإعادة إخراجها وفق مقاييس التعددية الحزبية والموازين الانتخابية، مع تحكم المليشيات في عملية الصراع السياسي. ووفق هذا النموذج يتماهى الانتماء السياسي للمواطن العراقي مع هويته الطائفية المكرسة من خلال مقاربة زبونية لا يمكن أن تقوم وتستمر من دون حالة فساد واسعة، كما هو الشأن في الساحة اللبنانية أيضاً. ومن هنا فإن الانتفاضة التي تعرفها حالياً كبريات المدن العراقية لا تختلف في الجوهر عن السياق اللبناني، من حيث دلالة الحدث وخلفياته.
كان عالم الانتربولوجيا لويس ديمون قد ميّز بين نوعين من المجتمعات، أطلق على أحدهما المجتمع الشمولي الذي يناسبه نمط الفردية التراتبية homo hierarchicus والمجتمع الحديث الذي ولّد نمط الفردية المتساوية homo aeqalis. وتعني الفردية التراتبية أن اندماج الشخص في المجتمع يقتضي التلاؤم مع الكل المتجانس بحيث لا تكون له أي هوية بالانفصال عن المجموع الذي يحدد له موقعه في الخارطة القائمة. أما الفردية المتساوية فتعني استقلالية وتميز الفرد من حيث إرادته وخياراته الحرة في مقابل الكل الاجتماعي الذي يسمه التنوع والتجزؤ نتيجة الانفصام بين القيمة والفكرة في المجتمعات الحديثة، على عكس السياقات التراتبية التقليدية.
من هذا المنظور، يمكن القول إن الانتفاضات الاحتجاجية التي تجتاح في الوقت الحالي كلا العراق ولبنان هي لحظة ميلاد الإنسان الفردي الحر الذي يريد اختيار هويته الذاتية باستقلال عن السلط الطائفية التي تحول المقاييس التمثيلية الديمقراطية إلى قنوات لتقاسم هذه السلط للمنافع المادية والرمزية للدولة.
ما حدث في السودان ليس بعيداً من هذه الحالة، رغم اختلاف السياق، باعتبار أن القوى المدنية التي قادت عملية التغيير وقفت ضد نمط آخر من الطائفية هو الطائفية الأيديولوجية التي هيمنت على منافذ القرار والسلطة باسم الرمزية الإسلامية التي أرادها تحالف الترابي -البشير (قبل وبعد تصدعه) أن تكون البديل عن التركيبة الصوفية (الختمية والمهدية..) التي كانت عماد الإسلام الأهلي السوداني.
إن شعار رحيل الطبقة السياسية الذي رُفع في لبنان والعراق يعني من هذا المنطلق الاحتجاج ضد تحالف رجال السياسة والمؤسسة الطائفية، وبهذا المعنى تكون الأحداث الراهنة لحظة ميلاد الإنسان المواطن في مواجهة الاستبداد الطائفي.

*أكاديمي موريتاني