هزت الانتفاضة التي يقودها الشباب اللبناني الأحزاب هزّة كبيرة وكذلك اليقينيات والحركات والأفكار والانتماءات ومفاهيم السياسة: من المنقلبات التاريخية المتتالية المتوالدة على امتداد 160 عاماً إلى زمن انقشاع الصحوة وانكشاف ما كان يتراكم في الدواخل والهواجس والموروثات المذهبية بتبعاتها الخارجية. كل ذلك القاع طفا على السطح اليوم مزبداً صارخاً مدوياً من المكبوتات والمقموعات وأشكال التهميش والنبذ والهيمنة.
إنه الشباب الساطع بغضبه وتمرده على كل ما قولب وانتهك حياته، إنها ثورة الحاضر على الماضي بكل ظواهره وخرافاته الطائفية ويقينياته المطموسة، ثورة ما ينبشه الجيل الجديد من خراب وتمزق في جسد الوطن وفي كيانه، بل هو خروج على كل أشكال الأمر الواقع المتعاقب المتحجر المتكلس من مذهبية وتعصب وانغلاق لم تجر سوى البلاء وذل الوصايات والاحتلالات التي باتت وكأنها من الحقائق الدامغة التي على الشعب أن يخضع لها ويمارسها وكأنها جزء من طبيعته وحريته التي يجب أن يؤمن بها كطريق خلاصٍ كل طائفة وحزب ومنطقة لكنه كان الخلاص الموهوم والرجاء الخائب والفتن المتعاقبة والانقسامات العمودية بين المكونات والكيان والنظام والوجود، حتى بدا هذا البلد في السنوات الخمسين الأخيرة وكأنه يضم مجموعة شعوب افتراضية. لم يستطع حزب ما أن يسلك طريق الوطن إلا عبر التواطؤ مع الخارج أو استجراره بحجة الإنقاذ مما جلب الوصايات والاحتلالات.
وفي السابع عشر من أكتوبر 2019 طفح كل شيء أمام الشباب، الفقر والبطالة والسيادة والحرية والمهانة والإفلاس والاستسلام... أراد بعض السياسيين المرتهنين بالخارج عشية الثورة أن يقلبوا الطاولة بقيادة 8 آذار لتغيير المعادلات الدستورية برسمه انقلاباً يحول لبنان نظاماً رئاسياً مطلقاً، يمحو ما تبقى من صورة هذا البلد الديمقراطي البرلماني... لكن وقبيل لحظة التنفيذ، وبقدرة قادر، وبما يشبه المعجزة قال الشباب «كفى» لا لوصاية «حزب الله»، ولا لكل الطاقم السياسي المتهافت والمشبوه، ولا لسياسة الاستئثار والنهب والعمالة. ولا للطائفية أم المصائب أم كل الحروب التي توالت بتخطيط الخارج ورعايته منذ 160 عاماً.
لعبوا لعبة كل الوصايات المتقادمة ضد مصلحة الوطن والشعب. وإذا كانت ثورة الأرز اقتصرت على الفئات السيادية الحزبية والطائفية، لكنها اليوم تخطت كل هذه المعطيات، تجاوزت كل الجغرافيات المذهبية في كل بقاع لبنان، واخترقت كل الأحزاب والحركات الكنتونية والتقسيمية: خرج جزء كبير من الشيعة من جلباب حزبهم فتمردوا وشاركوا في التظاهرات، التي لم يكن الحزب موافقاً عليها وقالوا له كفى نحن لبنانيون وعرب وجائعون وفقراء وهذه هي ثورة كل المظلومين في لبنان على غرار مئات الألوف من المواطنين الذين احتلوا المدن والساحات والقرى والبلدات من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه. إنها الظاهرة الكبرى التي قضّت مضاجع كل الطاقم السياسي وكل حزب! لكن ومن فرط قوة هذا الانفجار الاجتماعي والسياسي، ومن شفافيته العفوية تنوعت المطالب حتى التناقض حتى كادت تكون دون أولويات ومن دون قيادة موحدة، وهذا جعل المنتفضين يرفضون كل الطواقم السياسية القديمة والحديثة من دون استثناء «لا نريدهم كلهم، وكلهم يعني كلهم»، فلا مفاوضة ولا حوار لا مع رئيس الحكومة، ولا مجلس النواب، ولا رئيس الجمهورية قبل سقوط الحكومة وتأليف أخرى من التكنوقراط وإجراء انتخابات مبكرة. لكن المعجزة الأهم ربما إن سقطت الجدران الأبدية المغلقة بين مكونات الشعب اللبناني حتى راح بعد الثوار في طرابلس والإشرفية وزحلة والمتن يوجهون التحيات والتأييد إلى أهل الجنوب وبعلبك وصور وكفر رمان والنبطية وصيدا هؤلاء الذين تعرضوا لقمع حزب الله بضربهم بالسكاكين والعصي. إنها الثورة التي تصنع بأصابع سلمية ما يمكن أن نسميه «ولادة الأمة اللبنانية» أو نشوء الجمهورية الثالثة.
لكن هل تُوأَد هذه الانتفاضة في مهدها؟ هل تلتف عليها قوى الأمر الواقع؟ هل تفتعل مواجهاتٍ بينها وبين الثورة المضادة.. سواء بالسلاح أو بالتظاهرات الموازية مما قد يفتعل من هم على نقيضها حروباً أهلية طائفية كما هدد نصر الله في خطابه الأخير؟