في حمأة الصراعات الطاحنة بين البشر، تبدو الحكمةُ، وإنْ كانت علية المنزلة، لوهلةٍ، أضعف حجةً، وأقل قبولاً، وأضعف انتشاراً، من كل شيء سواها، ولو كان هذا الشيء، هو عين الحمق. ففي زمن الحروب الأهلية الأوروبية، وفي خضم الظلام الدامس، المخضب بالدماء، برزت أفكار التسامح لدى الفلاسفة، وأعلام التنوير، منذ هوبز وحتى فولتير ولوك.
ملايين القتلى، وبحيرات الدماء، بسبب خلاف داخل الدين المسيحي، بحجج الاصطفاء، ووهم احتكار الحق، جعلت التسامح، ينشأ من رحم المأساة، وعمق المعاناة.
تبدو أفكار عقلنة التصرفات، وكبح جماحها، علامة ضعفٍ بالنسبة للبعض، ومن ذلك الأصوات المتطرفة التي شغّبت على «اتفاقية باريس للعائلة الإبراهيمية» التي وقعها عالم من حكماء المسلمين، هو الشيخ الدكتور محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، مع ممثلي الأديان، من أربعين دولة.
ولد الشيخ محمد العيسى، في يونيو 1965، واهتم منذ يفاعة عمره، بالعلوم الشرعية، وتخصص في دراساتها في البكالوريوس والماجستير ثم الدكتوراه، ومن الفقه المقارن، إلى الدراسات القضائية، حتى التمكن من القانون الدستوري.
سلك الشيخ العيسى طريق الفقهاء الكبار تاريخياً، فبعد أن تمكن من علوم زمانه، دفعه شغف التعلم نحو التغرب، والتوجه شرقاً، أو الاتجاه غرباً، بحثاً عن علم يحصله، أو عن راغب في تلقي علم يؤديه، كما فعل الإمام الشافعي الذي خبر المنطق، وألّف «الرسالة» في أصول الفقه، المتن الاستثنائي الذي تم اجتراحه بالاستناد إلى «المنطق»، وكذلك جدد الإمام الجويني في كتابه: «غياث الأمم في التياث الظلم»، ومثلهما القرافي في: «أنوار البروق في أنواء الفروق»، والذي يعرف اختصاراً بـ «الفروق»، ليصل الإبداع إلى مقامٍ رفيع بكتاب الشاطبي: «الموافقات في أصول الشريعة»، والذي يؤسس مقاصد الشريعة، ويستخدم العقل في فهم علة التشريع، حاصراً المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة لحفظها. كل ذلك بفضل الانفتاح على العلوم المختلفة.
الشيخ العيسى، بأطروحاته الفقهية المعاصرة، اهتم بتأصيل طبيعة الاختلاف بين الأمم والأديان والشعوب، باعتبارها من السنن الكونية الإلهية، ومعاندة الاختلاف، وأطر الناس على رأي واحد، يخالف طبيعة الكون. وفي نقاشه للمسائل الفقهية محل الإشكال، يغلب الرأي الأكثر تحقيقاً لمصلحة العباد، ولذلك جاء في الأصول: «الحكم الشرعي يدور مع المصلحة، فحيثما تحققت المصلحة فثمة شرع الله».
أثر العيسى، في تطوير المؤسسات العدلية، منذ أن كان نائباً لرئيس ديوان المظالم في 2007، بدا جلياً، وتجسد حين صار وزيراً للعدل في 14 فبراير 2009، وحين تولى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء في 30 مارس 2012، إذ عبّد الطرق أمام تطوير الأنظمة، وتحديث البيئة القضائية، وجعل المؤسسات أكثر معاصرةً وتطوراً، تبعاً لتغير حاجات الناس، وأنماط عيشهم، وتغير واقعهم.
ولم يكن هذا الجهد من الشيخ العيسى يسير في طريق معبد، فقد ناله ما ناله من قدح، وذم، وتبديع، وتفسيق، ودُعي عليه من المنابر، لكن ذلك كله لم يثنِ له عزيمة، ولم يفت له عزم، فواصل عمله، غير عابئ بهنيهات الطريق، ولا بنعيق الناعقين خلف ظهره، فهناك من لا يرجو غير تأخيرك، عن الوصول لهدفك في أسرع وقت.
ومنذ تعيينه أميناً عاماً لـ«رابطة العالم الإسلامي»، ورئيساً للهيئة العامة للعلماء المسلمين، في 12 أغسطس 2016، قاد العيسى عشرات اللقاءات بين قادة المذاهب والأديان في العالم، شرقاً وغرباً، وأخذ على عاتقه إيضاح المفاهيم المسببة لعطب العلاقات بين أتباعها، ومن ذلك مفهوم التسامح، وعلى إثر حماسته واهتماماته بنشر الوسطية والاعتدال، كرمته جمهورية سنغافورة في مطلع العام 2017.
وضمن خروجه عن السائد، وضمن تقديم الإسلام ديناً عصرياً، كتب مقالةً حول «المحرقة»، مديناً إنكارها، فهي من المآسي البشرية، والأعمال المروعة، والتي «لا ينكرها عاقل»، كما عبر الشيخ.
قاد الشيخ العيسى مع جمع من العلماء، مشروع صياغة «وثيقة مكة»، وأعلنت في العشر الأواخر من رمضان الماضي التي وقع عليها ألف ومائتا عالم، وتؤكد قيم التعايش والتسامح والحوار والتعليم والقيم المشتركة، وهي وثيقة تاريخية مذهلة لمن تمعن في بنودها ومضامينها.
اللغة التي كتبت بها وثيقة مكة، لغة تحمل مفاهيم حديثة، وألفاظاً معاصرة، نشأت بعد عشرات السنين وربما مئات السنين، منذ زمن ازدهار كتابة المدونات الفقهية التي باتت الأحكام الشرعية تعتمد عليها، في بيان الحلال من الحرام. لم نعتد أن يستخدمها علماء الشريعة، وهي لغة لم تكن تستخدم من قبل علماء الإسلام، لأنها ألفاظ حديثة، جرى تشويهها عمداً من قبل بعض المتحمسين الذين يظنون أن الإسلام أضعف من التعاطي مع مصطلحات حديثة!
يمثل الشيخ العيسى علامةً فارقةً في الفقه والتأصيل الشرعي والقانوني، والنجاح الإداري في المناصب العديدة الموكلة إليه، طبعت حواراته ونقاشاته بعمق الاطلاع الفكري، ما جعل البناء الفقهي الذي يقدمه يمتاز بالرشاقة والمعاصرة. إنه وجه تسامح مشرق، من المملكة العربية السعودية إلى العالم. بوركت جهوده، ولازمه التوفيق، خدمة لتقديم الإسلام في هذا العصر بما يليق به من دين قادر على مواكبة التطورات.