قبيل استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري أعلن حاكم البنك المركزي رياض سلامة «أن لبنان بحاجة إلى حل سياسي خلال أيام للأزمة التي تعيشها البلاد من أجل استعادة الثقة والحيلولة دون انهيار مالي»، ومحذراً «من الفوضى الاقتصادية ونتائجها السلبية». وجاء هذا الإعلان كأنه مهد الطريق للاستقالة. وبما أن الانتفاضة الشعبية قد دفعت باتجاه انكشاف إضافي في الوضع المالي وأوصلت الأمور إلى مكان اللاعودة، والسلطة الحالية لم تعد قادرة على إعادة الحياة إلى طبيعتها من دون المجازفة بحصول انهيار مالي. لذلك المطلوب الإسراع بتشكيل حكومة تستطيع أن تواجه التحديات المالية والاقتصادية، تضم اختصاصيين وأصحاب كفاءات عالية مشهودا لهم بإنجازاتهم وبنظافة كفهم، حتى تقوم بخطوات تغييرية تضفي الارتياح على المزاج الشعبي، وتكافح الفساد وتعمل على استعادة الأموال المنهوبة وتوفير الاستقرار السياسي والأمني، وتعطي«صدمة ثقة» في الداخل والخارج، ولاسيما للمستثمرين ورجال الأعمال، وللمؤسسات العربية والدولية التي يأمل لبنان مساعدتها لاجتياز أزمته المالية.
وإذا كان لبنان قد هبط وفق قاموس مؤسسات التصنيف الدولية إلى درجة الدخول في دائرة البلدان غير الصالحة للاستثمار، فإن ما يجري حالياً في سوقه المالي يشبه إلى حد بعيد ما يحصل عادة في الدول التي تتعرض لأزمات الإفلاس، رغم أنه ليس مفلساً بشهادة مؤسسات التمويل الدولية. ولكن يجب الإشارة إلى خطورة ما اعترف به حاكم البنك المركزي رياض سلامة من أن «لدى لبنان ديونا دولية عليه تسديدها، وإلا فسيكون في وضع الدول المتخلفة عن الدفع». ووفق بيانات «آي.اتش.اس. ماركت»، ينطوي مستوى مخاطر الائتمان على احتمال نسبته 26 في المئة، أي أن يتخلف لبنان عن سداد ديونه خلال عام، وترتفع النسبة إلى 59 في المئة في غضون خمس سنوات. وكذلك وفق مؤشر «جي. بي. مورجان»، قفزت علاوة الدين اللبناني وفق أدوات الخزانة الأميركية الآمنة، إلى مستوى قياسي عند 1715 نقطة أساس، ويعد لبنان أحد أربعة بلدان (الأرجنتين وفنزويلا وزامبيا)، وهي نقاط ساخنة تزيد علاوتها السعرية على الألف نقطة أساس.
لقد اضطر لبنان مؤخرا إلى الاقتراض بإصدار«يوروبوند» بملياري دولار بفائدة نحو 13 في المئة، وبما أن سعر الفائدة المرجعية في لندن ونيويورك يدور حول 2 في المئة يكون«ثمن المخاطر الأمنية»الذي يدفعه 11 في المئة، والأخطر من ذلك ضخامة الاستحقاقات المتوجبة على الدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية في العام المقبل وتبلغ نحو 4.67 مليار دولار، وستتضاعف (وفق وزارة المالية) إلى 15.9 مليار دولار عام 2023، منها 6.9 مليار دولار تكلفة الفوائد. وتأتي هذه الاستحقاقات في ظل تفاقم حالة «نقص الدولار» وصعوبات التمويل الخارجي.
من هنا، يمكن النظر إلى الحكومة المرتقبة، لتكون حكومة إدارة الانهيار الاقتصادي المتوقع، الذي لم يعد بالإمكان تفاديه، ويتوجب عليها، إضافة إلى تحمّل التبعات الاجتماعية والأمنية للانهيار، إجراء إصلاحات اقتصادية غير شعبية، مثل تطهير إدارات الدولة من الفائض الوظيفي، ورفع الدعم عن الكهرباء والطحين والمحروقات، وفتح الاحتكارات العامة للمنافسة، خصوصاً في قطاعات الاتصالات والطيران والكهرباء والمياه، إضافةً إلى خصخصة بعض المؤسسات العامة. وعلى رغم أن هذه الإصلاحات قد تترافق مع سخط شعبي كبير وانفجار اجتماعي، ولكنها ستساهم بعودة التوازن المالي ووضع الأسس السليمة للنمو الاقتصادي، على أمل أن تسمح أموال «سيدر» البالغة نحو 11 مليار دولار من تخفيف بعض الاحتقان، في حال نجحت الحكومة في استعادة «الثقة» الدولية.
* كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية