يقول الأميركيون إنهم يلاحقون البغدادي من ثلاث سنوات، وقد شكروا كل الأطراف، وبينهم العراقيون والسوريون والأتراك والروس، ومن كل هؤلاء ربما كان العراقيون وحدهم مهتمين فعلاً بسبب ما عانته بلادهم من البغدادي، أما الأطراف الأخرى فلم يكن ذلك بين أولوياتهم، فقد أفاد الأتراك من العنف الداعشي لعدة جهات: لجهة مكافحة الأكراد المتجمعين على الحدود بسلاحهم، ولجهة معارضة الحكومة السورية والضغط عليه، ولجهة الإثبات للأميركيين والروس أنهم محتاجون لتركيا إذا أرادوا مواجهة «داعش»! وقد أفاد الأسد من اتجاه «داعش» للاستيلاء على المناطق، التي كانت خاضعة للمعارضة والأكراد، فمع زوال المعارضة من تلك المناطق، وقتال الأكراد، ستعود لحضن النظام كما يحدث الآن، وعلى مكافحة المعارضة انصبّ الجهد من جانب النظام وحلفائه، فكان «داعش» حليفاً غير منتظر، رغم ضجيجه العالي ضد النظام، ما بدأت دعاية الأتراك ضد «داعش» إلاّ في أواسط 2016، عندما اشتدت الضغوط الأميركية على أردوغان كي ينضمَّ للتحالف، وهو الذي كان قد رفض ذلك عندما اجتاح «داعش» الموصل، بحجة أنهم احتجزوا دبلوماسيين أتراكاً بالقنصلية التركية بالمدينة، وأنه يخشى على حياتهم!
ما كان المقصود بهذا التقديم اتهام طرف أو آخر بالمؤامرة، بل المقصود كان القول إنّ البغدادي و«دولته» كانا يمكن تصفيتهما خلال شهورٍ قليلةٍ، في سوريا كما في العراق، لولا السياسات التي سادت البلدين، فإنّ لم يكن ممكناً التنبؤ بظهور هذا التطرف العنيف، فقد كان يمكن للسلطتين وهما حليفتان، التعاون في مكافحة الظاهرة دونما حاجةٍ للأميركان والروس، بدلاً من الانصراف لقتل المتظاهرين السلميين، وبدلاً من مسارعة الجيوش وأجهزة الأمن للانسحاب من المناطق التي هاجمها «داعش»!
ولنعد إلى المسألة الأهمّ: الأضرار الهائلة التي أوقعها «داعش» بالإنسان والعمران، ثم ومن ضمن الأضرار موجات الكراهية وسوء السمعة التي تسبّب بها أو باشرها في ديارنا وبين أجيالنا وعلى ديننا وأخلاقنا في ديارنا وفي العالم، إذ هذه التصرفات التي لا تنتهي فظائعها هي التي أنقذت السيطرات في العراق وسوريا ولبنان، فقد صار ضرورياً الصمود من ورائها للحفاظ على الدول ووحدة أراضيها ومع السلطات القائمة ذاتها، إذ كيف يمكن الركون إلى تغييرٍ غير معروف التوجهات والأبعاد، وسط موجات التظاهر والهتاف ضد الأنظمة هناك؟! لقد بدا لسنوات أنه إما الأنظمة السائدة في تلك الدول، وإما «داعش» المرعب!
لكنّ الشرور التي مارسها الداعشيون تتجاوز المكان والزمان، إذ إنّ العنف الذي أثاروه ما كان عنفاً أداتياً شأن قُطَّاع الطرق أو أجهزة الجريمة المنظمة، بل كان إلى ذلك عنفاً عقائدياً وأيديولوجياً، ويمثل انشقاقاً في الدين، وخروجاً على الجماعة، وقتلاً لأفرادها وجماعاتها باسم الدين، وتأكيداً لنظرةٍ فصاميةٍ تُجاه العالم.
كل الذين تحدثوا بعد مقتل البغدادي، شدّدوا على أن «داعشاً» لم ينته، وأنّه وإن ضعُف ربما يكون باقياً، وقد تتكاثر الذئاب المنفردة في العالم العربي وخارجه، بيد أنّ الأفظع هو مرض الكراهية الذي بثته «القاعدة» و«داعش»، لقد فُقدت الثقة بالنفس وبالآخر، واستولت فكرة المؤامرة التي تشاركت فيها عدةُ أطراف في العالمين العربي والإسلامي وفي العالم! فلدينا من قبل «داعش» و«القاعدة»، ومن بعدهما، مرضان: مرض اللجوء إلى العنف لأقلّ الأسباب وضد النفس والآخر، والمرض الآخر: مرض الشك والكراهية والمؤامرة.
حضرت في فيينا، بدعوة من مركز الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات، مؤتمراً عن دور الدين والإعلام والسياسات في مواجهة خطاب الكراهية (30-31 أكتوبر 2019)، وحضر المؤتمر أكثر من مائةٍ من العاملين في المجالات المذكورة، تحدثوا عن تجاربهم ونضالهم ضد الكراهية، سواء في مجتمعات المسلمين أو في المجال العالمي، مع ظاهرة الإسلاموفوبيا،
إنها تجربة فظيعة مرت، لكنها لم تنته، وربما لن تنتهي قريباً وجوه الشك والضعف الديني والأخلاقي والكراهية التي نشرتها.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت