ظلّت ردود الفعل الدولية على مقتل زعيم تنظيم «داعش» مشوبة بالاستفهامات، وإن اتفقت على خلاصة واحدة بدت بديهية وهي أن نهاية البغدادي خبر جيّد لكن الخبر السيئ أن تنظيمه لم ينتهِ. وهذا وحده كاف لإبقاء الحذر والاستمرار في البحث الصعب عن المواقع المفترضة لفلول «داعش» داخل سوريا والعراق، وفي العديد من الدول العربية والأفريقية التي تواجه فروعاً متفاوتة القدرات لهذا التنظيم، فضلاً عن دول أوروبية وآسيوية تخصص موارد ضخمة في تعقّب خلاياه النائمة وذئابه المنفردة. فكما حصل بعد ضرب البنية الأساسية لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان عام 2001 ثم ظهوره في العراق بعد الغزو الأميركي، راحت الأجهزة الأمنية تتعامل أيضاً مع «داعش» حتى قبل هزيمته العسكرية في الموصل والرقّة باعتباره هو الآخر «فكرة» يمكن أن تصادف مجموعة أو أشخاصاً لديهم استعداد لاتّباعها وتفعيلها.
لم تتوقّف العواصم كافة أمام ملاحظات واستنتاجات تشكّك في ملابسات العملية الأميركية في ريف إدلب الشمالي التي أطاحت بالبغدادي، لكنها اهتمّت أكثر بمسألتين: مستقبل التنظيم، ومصير الحرب على الإرهاب. وقبل ذلك كانت الدول المشاركة في «التحالف الدولي» قد تلقت بقلق واستهجان القرار الأميركي المفاجئ بالانسحاب من شمالي شرق سوريا الذي فتح الطريق للاجتياح التركي، محذّرةً من انعكاسات منها: انفلات الوضع على نحو يتيح فرار أسرى «داعش» من معتقلات «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، واحتمالات انتهاز التنظيم الفرصة للعودة إلى التحرك. ويذكر أن فرنسا طلبت اجتماعاً عاجلاً لـ«التحالف»، لكن واشنطن لم تستجب، وبررت ذلك بأنها كانت تتعامل مع أولويات أكثر استعجالاً كوقف الهجوم التركي وتدبير انسحاب عسكرييها وسلامتهم. ولاحظت مصادر عديدة أن «التحالف» يشكو، منذ انتهاء العمليات القتالية ضد التنظيم، حالةً من السيولة وعدم تبادل المعلومات والتشاور. وقد دلّ إلى ذلك مثلاً عدم التوصّل إلى خطط موحّدة للتعامل مع مشكلة أسرى «داعش» الأجانب وعائلاتهم.
وفي هذه الأجواء حصلت عملية التخلّص من البغدادي، وخلافاً للتوقّعات لم يتأخر تعيين خلفه، ثم تبين أن إدارة ترامب أعادت صياغة بقائها في شمالي شرق سوريا بتأكيدها أن قواتها باقية «لحماية مواقع النفط» هناك، لكنها لم تؤكّد أن الانسحاب تأجّل أو ألغي رغم أن الرئيس ترامب واصل الحديث عنه باعتباره ناجزاً ولا رجعة فيه. لذلك بقيت هذه المسألة تعاني من الالتباس والغموض، ولا تعطي الحلفاء والأصدقاء انطباعاً صلباً بأن لدى الولايات المتحدة حدّاً أدنى من الثبات في سياستها. وبالتالي فقد طرح كثيرون السؤال: مَن بعد «داعش»؟ ما يعني الاشتباه بأن تنظيماً آخر قد يظهر لاحقاً، بل يضمر أن مثل هذه المجموعات الإرهابية باتت «حاجة دائمة» لهذه القوى الدولية والإقليمية أو تلك.
وفي سياق ردود الفعل، عكس محللون غربيون مآخذ بعضها حكومي على إدارة «الحرب على الإرهاب» لافتين إلى أنه رغم وجود «تحالف» وإمكانات هائلة موظّفة في الحرب، ودفقاً غزيراً من المعلومات، لم تُبنَ سردية واحدة دقيقة لظروف نشوء «داعش» بهدف تحديد الأسباب أو الأخطاء السياسية والأمنية، وهي خطوة ضرورية لسيرورة الجانب المهم للحرب المتمثّل بمكافحة «صناعة التوحّش» فكرياً واجتماعياً. ورغم اختلاف الظروف بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، فإن المقارنة فرضت نفسها؛ فالأول ظهر بعد تخلّي الولايات المتحدة عن الأفغان عام 1989، والثاني بعد انسحابها من العراق أواخر 2011، تاركةً وراءها في البلدَين فوضى عسكرية وسياسية، فيما لم تكن حكومتا البلدين مؤهّلتين لاحتواء الصراعات، وبالتالي فقد أفضت الفوضى إلى الإرهاب.
لذلك تركّزت الانتقادات على مغزى الانسحاب الأميركي من سوريا قبل اكتمال فصول الحرب على الإرهاب والتأكّد من انتفاء قدرة التنظيم على معاودة أنشطته أو تلاشي التواصل بينه وبين خلاياه المنتشرة. يضاف إلى ذلك أن الأوضاع الراهنة في سوريا والعراق لا تزال توفّر للتنظيم المقوّمات المناسبة لمعاودة استقطاب المقاتلين والأنصار، كما أنها تقدّم فرصاً لدول إقليمية (مثل تركيا) كي تستخدم ملف الإرهاب في خدمة سياساتها الإقليمية. ومع تسمية «القرشي» خلفاً للبغدادي، وتجاوز الخلافات بين أجنحة التنظيم، ربما بات ملحّاً في المقابل أن يُعاد ضبط إيقاع «التحالف». وفي هذا المجال ينبغي أن تقدم واشنطن لدول «التحالف» إيضاحاتها بشأن وجود البغدادي والعديد من مساعديه في إدلب حيث تملك تركياً حضوراً استخباراتياً وعسكرياً.

*محلل سياسي- لندن