استقال الرئيس سعد الحريري تلبيةً لحراك الشارع، فكان ذلك أول مكسبٍ من مطالب المنتفضين. لكن الحكومة بند واحد من بنود الاحتجاجات وليس الأخير. صحيح أن ما تم قد شكل صدمةً إيجابيةً بالنسبة للناس والمصارف التي فتحت أبوابها وكذلك الطرقات... لكن أين بات شعار «كُلهم يعني كلهم» من رأس الهرم (رئيس الجمهورية) إلى رئيس المجلس، والفاسدين ونهابي المال العام؟ هل ذهب أدراج الرياح فاكتفت الجماهير بهذا المطلب الذي بدا فيه الحريري للكثيرين كبش المحرقة؟ بل أكثر، هل اكتفى بعض المستفيدين أو المشاركين من الأحزاب في الانتفاضة، وإنْ بشكل موارب «القوات اللبنانية» و«الكتائب» بسقوط الحكومة، فسحبوا معظم مناصريهم من الطرقات والساحات؟
يلتزم سعد الحريري حتى كتابة هذه السطور الصمت. لكن في المقابل ألقى رئيس الجمهورية كلمة بمناسبة منتصف ولايته الثالثة، وفهمنا أنه حيا الشبان والشابات مؤكداً أن ما يطالبون به هي مطالبه ومطالب تياره... لكنه أعلن أنه يفضل حكومة اختصاصيين مُطعمة ببعض السياسيين (وخصوصاً صهره الوزير جبران باسيل). ثم تلاه السيد حسن نصر الله، الذي بدأ برغم نبرته الهادئة تارة والمهددة تارة أخرى مرتبكاً ومتناقضاً ومصراً على أن السفارات والجهات الأجنبية تقف وراء الحراك.. من دون أن يحدد تماماً تركيبة الحكومة التي يؤيدها لكنه جزم بأن هذه الأخيرة ستكون سيادية، أي أن قرارها وسياساتها نابعة من قرار اللبنانيين. أما رئيس حزب «القوات اللبنانية»، فقد طالب بحكومة تكنوقراطية.
يستشف من هذه المواقف المتعاكسة، وكأن الثورة قد انتهت وجاء موعد الحصاد، في الوقت الذي لا تزال التظاهرات كثيفة وجامعة في طرابلس وصيدا وعكار وبيروت وبعلبك رافعةً شعار «الشعب يريد إسقاط رئيس الجمهورية».
لكن الغريب ليس في اعتبار هؤلاء السياسيين الثورة قد أدت واجبها، بل وكأنها لم تحدث. وكأن ما بعدها مثل ما قبلها، اللغة السياسية التقليدية ذاتها تريد إنتاج السلطة ذاتها مع بعض الواجهات التقنية تحركها مباشرة أو غير مباشرة..
لم يفهم هؤلاء أن الانتفاضة هي التي باتت تتحكم بالمعادلات وليس الطبقة السياسية التي تفرضها. حتى ولو باشر الرئيس عون بالاستشارات النيابية، فمن المستبعد قبول بعض الأحزاب الأكثرية الممانعة وبعض من يهيمنون على مفاصل البلد أن يقبلوا خروجهم من الحكومة، لكي يفقدوا سلطتهم ومصالحهم ومحاصصتهم. فالعقلية الزبائنية ما زالت راسخة فيهم ووعود مكافحة الفساد المعسولة، وكأنها حبر على ورقة، فبالنسبة اليهم هناك جولة انتهت وعادت أدوارهم السابقة.
عقول قديمة تواجه واقعاً جديداً غير مسبوق. هذا الواقع الذي تمكن من سحب البسط والسجاد من تحت أقدام الطبقة التي تعتاش على المذهبية وحروب الإلغاء والارتهان بالخارج حتى في المناطق التي كانت مغلقة في الضاحية والجنوب والبقاع، (وهي معاقل الثنائي الشيعي) بقوّة تهديد وأفيون الطائفية، فقد تمرد عليها ناسها، فانضموا إلى الحراك، فضربوا وطعنوا بالسكاكين والعصي... وما يعني ذلك أن الكانتونية المغلقة والانعزالية التي سادت عشرات العقود، قد فتحت الانتفاضة بواباتها..لا مذهبية، ولا مناطقية، ولا حزبية في ميادين التحركات. وهذا بالذات ما يقلق الطغمة الحاكمة. تقارير من الصحف ووسائل الإعلام الأجنبية تسجل أن هناك 300 مليار دولار للسياسيين والاقتصاديين اللبنانيين مودعة في المصارف الغربية وخصوصاً سويسرا، فإذا قطعت دوابر المذهبية فماذا سيقدمون بديلاً منها للناس..أفكارهم؟ وهل عندهم أفكار؟ رؤاهم؟ وهل عندهم رؤى؟ ثقافتهم؟ وهل يتمتعون بغير الأمية؟.. ولو كان لديهم شيء من هذا كله لاكتشفوا أن هناك زمناً جديداً في لبنان والحبال والأوتاد والخيوط التي كانوا يعقلون بها الناس قد تقطعت. لكانوا أحسنوا الإصغاء إلى هموم الناس وأوضاعهم الدرامية ومعضلاتهم. لكن كأن ما صار اليوم في لبنان، كما في العراق، عالمان عالم الشباب الجديد المتفتح المتسامح الحالم العصري والمحروم من أدنى حقوقه. وعالم آخر مأسور بالماضي والعلاقات الإقطاعية الطائفية والسياسية التقليدية القائمة على الاستغلال والاستنهاب. نعم! الثورة لم تنتهِ ولكنها اليوم في بداياتها المفتوحة.