الانتخابات الرئاسية لعام 2020، أصبحت تمثل سباقاً حاسماً لمستقبل بلادنا لدى عدد كبير من الأميركيين على جانبي الاستقطاب السياسي الذي يتسع دوماً. صحيح أنه توجد مخاوف سياسية كبيرة محل رهان في نوفمبر 2020، لكن هذه انتخابات ستكون بشأن دونالد ترامب وما فعله في حياتنا السياسية. ولا شك أن دونالد ترامب كان أكثر الرؤساء إثارة للغضب في تاريخنا. والواقع أنه استمتع بهذا الدور فيما يبدو. والأمر لا يتعلق بالسياسيات التي يتبعها فحسب، بل يتعلق بالطريقة التي فاقم بها الاستقطاب في مجتمعنا وجعل بها خطابنا السياسي حاداً. فقد استغل ترامب الاجتماعات الحاشدة لتحريض الحضور ضد خصومه، مطلقاً الأوصاف السيئة عليهم، بل ومستخدماً لغةً سوقيةً للنيل منهم. واستغل أيضاً تغريداته ومداخلاته مع الصحافة للغرض نفسه. ورغم عدم الارتياح الذي شعر به الأعضاء الأكثر رصانة من الحزب «الجمهوري»، لكنهم أحجموا في معظم الأوقات عن انتقاد سلوكه، ويرجع هذا في جانب منه إلى خوفهم من غضبه وسخريته.
وترامب كانت له منهجية يتبعها في سلوكه. فما أدركه ترامب بحدسه هو غضب قطاع كبير من الناخبين الأميركيين الذين عصفت بهم التقلبات الاقتصادية والمهددين من قوى ثقافية تتجاوز سيطرتهم وتجاهلتهم النخب السياسية من الحزبين. ومهما يكن من أمر تسميتهم، سواء «الطبقة الوسطى من البيض» أو «الطبقة العاملة من البيض»، فهذه هي القاعدة التي استقطبها ترامب وأحسن التواصل معها. فقد أدان الصفقات التجارية التي أصر على أنها أرسلت وظائفهم في المصانع إلى المكسيك والصين بحثاً عن عمالة أرخص. وأدان اللوائح البيئية التي زعم أنها كلفتهم الوظائف في المناجم. وشن هجوماً ضد المهاجرين الذين أعلن أنهم السبب في نزوح العمال الأميركيين الكادحين، وأدان «نُخب السواحل» ممن يستعلون على أفراد الشعب العاديين، ويحتقرون قيمهم، ويتجاهلون طموحاتهم. فقد استغل مخاوف الناس وشعورهم بعدم الأمان، مضحياً بالمكسيكيين والمسلمين.
وحين أعلن ترامب أنه سيجعل أميركا عظيمة من جديد، فهمت قاعدة مؤيديه أنه سيستعيد مجد البلاد الغابر وماضياً رومانسياً لأحياء الطبقة الوسطى الوادعة الخالية من الجريمة، حين كانت الوظائف وافرة والفرص متاحة لكل من «يتبع القواعد».
لكن هناك مشكلات كثيرة تتعلق بترامب وخطابه هذا. فسياسات ترامب الاقتصادية وقيمه ونمط حياته لا تشبه تلك التي تتبناها قاعدة مؤيديه. والسياسات التي اتبعها أفادت الأثرياء وفاقمت فحسب عدم المساواة في الدخول. لكن لا شيء يهم في هذا قاعدته، لأنه يتحدث إليهم مباشرة وأقنعهم أنه وحده الذي يستطيع فهمهم ويكافح من أجلهم. وهؤلاء مع تعطشهم لمنقذ، تشبثوا به باعتباره آخر وأفضل أمل لتحسين حياتهم كثيراً. ونتيجة لهذا رأوا في الهجوم على رئاسته هجوماً على مستقبل سعادتهم.
والمعضلة التي تواجه «الديمقراطيين» الآن هي كيفية التصدي لتحدي ترامب هذا. ولا اتفاق تام وسط المرشحين ولا الحزب نفسه بشأن النهج الذي يتعين اتباعه في انتخابات 2020. لكن ما يتفق عليه الجميع هو ضرورة إدانة سلوك ترامب والمضي قدماً في عملية توجيه الاتهام له بسبب تجاوزاته، واعتبار ذلك أولوية قومية وإلزاماً دستورياً. لكن ماذا عن الانقسام وكيفية جذب قاعدة ترامب؟ هنا تفترق الآراء. والبعض لا يرى ضرورة لمعالجة هذا. فهم يريدون إلحاق الهزيمة بترامب وإحلال رئيس «ديمقراطي» محله في البيت الأبيض. ويعتقد آخرون أن معالجة الانقسامات تتمثل في الدعوة إلى الاتحاد والتمدين.
ومن الواضح أن الفوز هدف مهم لـ«الديمقراطيين»، لكن عملية الحكم نفسها في أميركا قبل عصر ترامب، كانت تمثل نقطة مثيرة للقلق لا يمكن تجاهلها ببساطة. لقد رأينا الخلل الوظيفي الناتج عن الحزبية الشديدة. والفوز بحد ذاته لن يحل هذه المشكلة. الأمر يتعلق بتغيير سياستنا والائتلاف في الحكم للمضي قدماً بالبلاد إلى الأمام.
وإذا أراد «الديمقراطيون» ألا يفوزوا فحسب، بل يتخلصوا من الانقسام الشديد، ويغيروا طبيعة الحياة السياسية، يتعين عليهم أن يتخلوا عن تركيزهم الضيق على قاعدتهم الحزبية، ويتحدثوا إلى الحشد الذي استوعبه ترامب. والاستراتيجية التي اتبعوها تركز حصرياً على زيادة مشاركة الناخبين من قاعدتهم وتوجيه غضبهم ضد ترامب. هذه الاستراتيجية قد تجعلهم يفوزون في الانتخابات، لكنها لن تفعل شيئاً في تغيير وتوسيع الائتلاف الحاكم. ويتعين عليهم عدم الاكتفاء بمخاطبة قاعدتهم، بل يتحدثون مباشرة أيضاً- كما فعل ترامب- إلى الطبقة العاملة- من كل الأعراق- الغاضبة والمحبطة من تردي أوضاعها.
والفوز في السياسة الأميركية وتغييرها يعني تبني نهج «هذا وذاك كلاهما»، وليس حصرية خيار «إما هذا، أو ذاك». وتجاهل بعض الأصوات أو محاولة الحصول على أصوات أكثر فقط من «الجانب الآخر، لن يؤدي إلا إلى زيادة الانقسام. والدعوة إلى الاتحاد والتمدين لا تلقى آذاناً صاغيةً حين يشعر الناس بالتضرر والإحباط والضيق. وبالاعتراف بهذا الضرر والإحباط والمشاركة في هذا الغضب، يستطيع الناخبون أن يتحدوا حول قائمة أولويات تنطق بصوت كل الأميركيين عبر التقسيمات المختلفة. وحينها، ربما نستطيع تضييق هوة الانقسامات.
رئيس المعهد العربي- الأميركي