يُستحضر جبل الجليد في النجاح كما يُستحضر في الفشل، فبينما هناك كتلة جليدية طافية على سطح الماء، فثمة كتلة ضخمة جداً في الأسفل لا تُرى، وتشكّل الكتلتان معاً جبلاً هائلاً من الجليد. ونحن نرى إنساناً ناجحاً، لكننا لا نرى الدعامات التي يستند إليها، فلا نرى كدّه ومواظبته وانضباطه وتضحياته، ونرى أمامنا إنساناً فاشلاً، لكننا لا نرى خموله وتهاونه وفلتانه وتكاسله، فكل ما أوصل هذا أو ذاك إلى ما وصلا إليه خارج مجال رؤيتنا.
وهكذا الأمر مع التسامح والتعصّب، فلا أحد يولد متسامحاً أو متعصباً، ولا توجد حقنة تأخذها فتكون متسامحاً ولا حقنة تأخذها فتكون متعصّباً، ولا أحد يفتح عينيه في الصباح على السرير ويقرر فجأة النظر للآخرين بتسامح، ويخرج وشعور يخالجه بأن الأرض أجمل بهذا التنوّع البشري في الأديان والأعراق والألسن والثقافات، ولا أحد يفتح عينيه في الصباح ويختار العكس، ويشعر بأن الأرض ستكون أفضل بالتماثل البشري على نموذجه هو. وإنما يصير المرء متسامحاً أو متعصّباً من خلال مقدمات لا نرى منها إلا النتائج، وفلسفة لا نرى منها إلا الآثار، وقيم لا نرى منها إلا الظلال، وزرع لا نرى منه إلا الثمار.
وهذه المقدمات تستغرق سنوات من التراكم في البيت والمدرسة والمسجد والشارع وعبر وسائل الإعلام والروافد الأخرى، مقدمة فوق أخرى تساند بعضها بعضاً، حتى تكتمل بمجموعها وتخلق فرداً متسامحاً أو متعصّباً، وكأنّ المقدمات خطّ إنتاج، والمتسامح أو المتعصّب المنتج النهائي. ولأن التسامح والتعصّب ضدّان لا يجتمعان، فمقدمات التسامح عكس مقدمات التعصّب، وحين سُئل لقمان الحكيم «ممّن تعلمت الحكمة؟»، فقال «من الجهلاء، كلما رأيت منهم عيباً تجنّبته».
والتسامح أصعب على نفس الإنسان من التعصّب، فزهرة التسامح لا تفتح إلا في صدر رحب، وقلب مبصر محب، وعقل يقظ مستنير، ونفس هادئة مطمئنة، وكل هذا يضغط على الإنسان ويرهقه ويحتاج معه إلى صبر وتمرين وإعادة نظر المرة تلو الأخرى، على عكس التعصّب الذي يكفي أن يستسلم الإنسان لهواه ولغرائزه ليستحوذ عليه. كما أن فلسفة التعصّب بسيطة جداً، فـ«الآخر هو الجحيم» وانتهى الأمر، بينما التسامح لا يكون إلا بعد أن يجيب الإنسان على عشرات الأسئلة الصعبة. وهذا ما يجعل جاذبية التسامح أقل بكثير من جاذبية التعصّب، كما هو الحال بين السير بصعوبة على سطح القمر والمشي بيسر على سطح الأرض.
عام التسامح في الإمارات على وشك النهاية، فقد أعلنت دولة الإمارات عام 2019 عاماً للتسامح، لـ «إبراز الإمارات عاصمة عالمية للتسامح، وتأكيد قيمة التسامح باعتبارها امتداداً لنهج زايد مؤسس الدولة، وعملاً مؤسسياً مستداماً يهدف إلى تعميق قيم التسامح والحوار وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة»، ومن ثم لا بد أن نستمر في الحديث عن التسامح ولا ننقطع عنه لحظة واحدة، فمبادرات التسامح وبرامجه ومؤسساته أُنشئت لتبقى، حتى تكون لدينا فلسفة متكاملة عن التسامح، فالإمارات دخلت هذا التحدي الصعب مع التعصّب والجهل والكراهية، وهي منصورة بإذن الله.
*كاتب إماراتي