قبل 30 عاماً، انهار جدار برلين الذي كان يمثل رمزاً قوياً وحاجزاً مادياً يفصل بين الشرق الشيوعي والغرب الديمقراطي بعد عام 1961. فقد انهارت الشيوعية في شرق أوروبا أولاً بين عامي 1989 و1990ثم في الاتحاد السوفييتي عام 1991. وتفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وتوحدت ألمانيا. وعقدت الحكومات على امتداد المنطقة انتخابات حرة. وبدأ كثيرون يعبرون عن أملهم في أن تصبح هذه المجتمعات ديمقراطيات منتعشة واقتصاديات سوق. لقد تحررت أوروبا الشرقية من النير السوفييتي واعتنقت القيم الغربية الخاصة بالسوق والديمقراطية.
واحتفل العالم بهذه التغيرات ليس باعتبارها انتصاراً للديمقراطية والسوق الحرة بل للأيديولوجيا والنفوذ السياسي الغربيين على الهيمنة السوفييتية. وانتعشت الديمقراطية والأسواق والإصلاحات الإدارية بالفعل وأصبحت الصدارة للنفوذ الغربي. وفي دول كثيرة، اتحدت النخب من كل الأطياف السياسية كي تطبق إصلاحات السوق وتدعم العضوية في الاتحاد الأوروبي. وحاكت حكومات المنطقة المؤسسات السياسية الغربية مثل القواعد الانتخابية والوكالات المنظمة والإدارات الإقليمية.
وحين لم تفعل الحكومات هذا، اتبعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سياسة الترغيب والترهيب للتشجيع على الإصلاحات. وتحقيقاً لهذه الالتزامات الجديدة، انضمت 10 دول من كتلة الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) بين 1999 و2004 وتبعها ثلاث دول أخرى. وفي الأول من مايو 2004، انضم ثمانية من هذه الدول أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي في أول موجة من دخول التكتل ثم انضمت ثلاث دول أخرى بحلول 2013. لكن الشعور بالانتصار كان قصير الأمد. فبعد ثلاثة عقود من حالة النشوة التي صاحبت سقوط جدار برلين، تتصدر أنباء تراجع الديمقراطية في المنطقة، وليس تدعيمها، عناوين الأنباء. فالحزب الحاكم في المجر يفكك مؤسسات الديمقراطية الليبرالية منذ عام 2010 ويعزز قبضته على السلطة بوسائل تجعل أسلافه الشيوعيين المستبدين يحمرون خجلا من الحسد.
والحزب الحاكم في بولندا حريص على اتباع النهج المجري. ويتهم مراقبون اندريه بابيس رئيس وزراء جمهورية التشيك بالتورط في عمليات مؤيدة للاستبداد. وأصبحت روسيا في عهد بوتين -وليس الولايات المتحدة أو الغرب- هي صاحبة النفوذ في المنطقة سياسياً وعسكرياً. وبوتين يتحالف مع الأحزاب السياسية ويمول السياسيين الشعبويين ويتدخل في الانتخابات بل وساعد في انقلابات. وأثار غزو روسيا لأوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم عام 2014 أسوأ أزمة بين الشرق والغرب منذ نهاية الحرب الباردة. وعبر زعماء مثل الرئيس التشيكي ميلوس زيمان ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن أفكار بوتين ودافعا عن «الديمقراطية غير الليبرالية».
من المؤكد أن هناك أسباباً للتفاؤل بشأن مستقبل الديمقراطية في المنطقة مثل انتخاب رئيس مناهض للفساد في سلوفاكيا وجهود رومانيا في مكافحة الفساد والانتعاش المستمر لجمهوريات البلطيق رغم الجوار المعادي. لكن الديمقراطية والأسواق الحرة والإصلاحات الإدارية لم تعد هدفاً نهائياً واضحاً لأوروبا ما بعد الشيوعية.
فما سبب هذه الردة؟ والإجابة هي أن هيمنة الأفكار الليبرالية أصبحت ضحية نجاحها. فمن المثير للسخرية أن اتفاق آراء النخب السياسية في أوروبا ما بعد الشيوعية حول إصلاحات السوق والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أذكى التمرد المناهض للديمقراطية. وهذا الاتفاق في الآراء كان يعني وجود قليل من المنتقدين المحليين من التيار الرئيسي لهذه التحركات. وهذه القلة تمثلت إلى حد كبير في الأحزاب الشعبوية التي انتقدت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو باعتباره انتقاصاً للسيادة الوطنية. وفي الفترة السابقة على عملية الانضمام للتكتل، كانت الأحزاب الشعبوية تشعر بأنها على الهامش السياسي ومرفوضة باعتبارها متطرفة ومناهضة للديمقراطية.
لكن بمجرد أن ظهرت علامات الفساد وعدم الكفاءة على الأحزاب السياسية من التيار الرئيسي، حتى فاز المنتقدون الشعبويون ببعض الشعبية والمصداقية. وفي بلدان كثيرة، اُنتخبوا في الحكومات وبدأوا على الفور في تقويض المؤسسات الديمقراطية باسم الدفاع عن المصالح القومية. ونتيجة لهذا، يقوض الشعبويون غير الليبراليين الآن الديمقراطية حتى في بلدان كانت نموذجاً للفخر بالإصلاحات الديمقراطية المبكرة مثل بولندا والمجر.
وثانياً: أدى الانتصار الظاهري للديمقراطية والأسواق الحرة في أوروبا إلى الشعور بالرضا داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فقد علمت أوروبا الموحدة بالتقهقر الديمقراطي في بولندا والمجر، لكنها لم تتخذ من الإجراءات إلا القليل لمعاقبة هذه الحكومات المشاكسة. والولايات المتحدة من جانبها قللت من قدرات روسيا على العرقلة.
كان انهيار جدار برلين يعني فرصاً جديدة هائلة لبناء أسواق أوسع وديمقراطيات جديدة لكنه سمح أيضاً بظهور أنظمة غير ليبرالية وصعود للنفوذ الروسي من جديد. إننا نتعلم عبر العالم أن الديمقراطية ليست إنجازاً لا يمكن نقضه. وهذا يصح بشكل خاص في الدول التي تبنت الديمقراطية حديثاً في ظلال سلطة عدوانية ومستبدة. الديمقراطية مثل جدار يتعين تحصيناً ليصمد.
آنا جرزيمالا-بوسى
أستاذة الدراسات الدولية في جامعة ستانفورد
باولين جونز
أستاذة العلوم السياسية ومديرة المعهد الدولي جامعة ميشيجان
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»