لا ألوم من يقفون موقفاً سلبياً من كتب ومحاضرات تطوير الذات والعلاج بالطاقة التي ملأت المكتبات والأسواق، لأن من يكتبون ويحاضرون في هذا المجال قد ذهبوا بعيداً وجازفوا كثيراً ونهجوا نهجاً لا يمكن بحال موافقتهم عليه. الاعتراض على هذا النوع من الكتابة والأفكار وصل إلى الدوائر الفلسفية، فهذا البروفيسور البريطاني «آلان دي بوتون»، وهو من أساتذة الفلسفة المشهورين، يوثق تلفزيونياً اعتراضاً حاداً على «التهريج» الذي يمارسه «توني روبنز» ومن يسير في خطه ممن يتحدثون عن «إيقاظ المارد الداخلي» وجني الملايين في أسابيع. وقد ذهب تلاميذهم بعيداً، ولم تعد القضية قضية محاضرة عن «كيف تصبح مليونيراً في أسبوع» بقلم رجل مديون لم يسدد فواتير الكهرباء بعد، بل تجاوز بهم الأمر إلى إنكار العلم الحديث والطب الحديث والتشكيك في جدوى التطعيم ضد الأمراض، وإنكار وجود السرطان والأيدز، بحجة أن الأمراض كلها ذات أساس نفسي، وإذا كانت الحالة النفسية ممتازة فلن يصاب الإنسان بأي مرض! نحن هنا أمام نوايا طيبة ستؤدي دائماً إلى كوارث كبرى إن اتبع الناس مثل هذه الطريقة في التفكير.
في المقابل، سنجد أن الجامعات قد وقفت بدورها موقفاً حاداً من العلوم الميتافيزيقية منذ هجوم الوضعية على الفلسفة المثالية الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى هذه اللحظة ورفضها للميتافيزيقا جملة وتفصيلا، إما لعدم جدواها أو بدعوى أن قضاياها بلا معنى. العلم الحديث ابن هذه الوضعية ولذلك يرفض رفضاً قاطعاً الاعتماد على أي شيء عدا التجربة والمعامل والحواس والمرئي والمسموع، ولا شيء سوى ذلك.
هنا افترقت بالناس الطرق، فريق لا يؤمن إلا بالمادة ويرفض تماماً حياة الروح بدعوى أنه عالم لا يمكن إدراكه أو ربما هو غير موجود. بينما عالم المادة هذا تؤكده تجربة الحواس الظاهرة، ولأن الحواس غير قادرة على إدراك أي شيء غير مادي أو ما لا يمكن تصنيفه على أنه مادة ذات جسم، لذلك حاول الماديون إقناعنا بأن ما يتجاوز الحواس غير حقيقي. في دنيا هذا الفريق ازدهرت الحياة وتطور العلم وجُمعت الثروات، لكن عالم مفلس تماماً فيما يتعلق بالطمأنينة التي لا توجد إلا عند من يؤمنون بعالم الروح.
والفريق الثاني ثري بعالم الروح والإيمان لدرجة العيش في الخرافة، لكنه فقير معدم فيما يتعلق بالحياة اليومية والحقائق الواقعية التي تمر عليه، وهو مغمض العينين يسبح في وجود بلا حدود. في هذا العالم، هناك مرضى كثيرون لم ينقذ حياتهم إلا الطب الحديث، ولولا التطعيمات لأصبح الجيل الجديد من أبنائهم مرضى يسيرون نحو الموت السريع الذي كان ينتزع أرواح كثيرين لم يعلموا اسم المرض الذي انتزع أرواحهم، ولولا التطعيمات لماتوا صغاراً كما كان يحدث لمعظم البشر في القرون الماضية.
هناك موقف متوسط لا يُلغي أياً من الرؤيتين، موقف يحترم العلم ومنجزاته ويأخذ بكل وصايا الأطباء ويرفض السير على النار والزجاج المكسور وابتلاع السيوف، لكنه أيضاً يؤمن بأثر الأفكار على الجسد وبمنفعة التفاؤل وضرر التشاؤم. على حياة الإنسان. نحن نرى الفكرة تمر بذهنك فتقلق روحك وتعذبها حتى تلقي بك مريضاً طريح الفراش، وهي مجرد فكرة عقلية لم تُخلق من مادة. ونرى المتفائل وكيف يعيش بعفوية مغتبطاً بحياته مرتاح البال قرير العين. كلا العالمين حقيقي، لكن لا بد من مراوحة القدمين بينهما، فالبقاء في أحدهما طوال الوقت ضرب من المستحيل.