في الليلة التي أعقبت سقوط جدار برلين، وبينما كنت أشاهد جموع الألمان الشرقيين المنفعلين يتقاطرون على شارع كرفرستندام، لم يخطر على بالي أن التاريخ كان بصدد الانتهاء. بل على العكس، فقد بدا لي أن التاريخ كان بصدد العودة في دول أوروبا الشرقية الأسيرة سابقاً. في تلك الليلة كتبتُ في مقال لصحيفة «واشنطن بوست» أن الشيوعية التي فرضها السوفييت قمعت السياسة التي كانت تحرّك الأحداث في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ودول أخرى من الكتلة الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية، لكن مع سقوط الجدار، أخذت تلك التيارات تظهر من جديد فجأة، كأنها استيقظت من نوم طويل. في بولندا، كانت «حركة التضامن» بصدد الانشقاق إلى فصيلين، ليبرالي وقومي، يشبهان أحزاب مرحلة ما قبل الحرب. وفي يوغسلافيا، كانت العداوات الإثنية بين الصرب والكروات قد أخذت تطفو على السطح من جديد.. فيما كانت المجر تعيد اكتشاف قوميتها لمرحلة ما قبل الحرب في نزاع مع رومانيا.
اليوم، وبعد ثلاثين عاماً على ذلك، لا تزال سياسة الثلاثينيات موجودة في الكتلة الشرقية السابقة. فبولندا تحكمها حكومة يمينية يربطها تحالف وثيق مع الكنيسة الكاثوليكية. وفي بقايا يوغوسلافيا السابقة يسود سلام هش بعد حرب إثنية مدمرة. والمجر التي كانت تحكمها حكومة يمينية قبل الحرب العالمية الثانية، يهيمن عليها الآن فيكتور أوربان الذي يفخر بأنه «غير ليبرالي» في استعادة للرجل القوي السابق ميكلوس هورثي، ورغم أنه يتم الخلط أحياناً بين هذه الحركات السياسية وشعبويي أوروبا الغربية الحاليين، فإنها في جوانب مهمة أشبه بنظيراتها في القرن العشرين. لكن ما يفاجئني حقاً هو إلى أي مدى صمدت سياسة العهد الشيوعي واستمرت. فقد كنتُ أعتقد في 1989 أن الشمولية على النموذج السوفييتي ستختفي من البلدان الأقرب إلى برلين من موسكو، لكن مواريث الحكم الشيوعي أثبتت أنها عنيدة.
أحد تلك المواريث هي استخدام التلفزيون الوطني للدعاية السياسية، فبعد قيام الديمقراطية، عملت بولندا على جعل شبكتها التلفزيونية المملوكة للدولة مستقلة، وفق نموذج هيئة الإذاعة البريطانية، لكن ذلك انتهى عند وصول حزب «القانون والعدالة» إلى السلطة عام 2015. وفي المجر، ذهب أوربان أبعد من ذلك في محاربة الإعلام المستقل.
الميراث الثاني هو تفشي الفساد، وهو أمر لم يتغير حتى اليوم في كثير من دول أوروبا الشرقية.
في 1989 تنبأتُ بأن تشيكوسلوفاكيا ستعود إلى نموذج التعددية الديمقراطية في عهد توماس ماساريك، رئيسها من 1918 إلى 1935. وقد فعلت ذلك في البداية، بفضل زعيم «الثورة المخملية» فاكلاف هافل. لكن رئيس الجمهورية التشيكية اليوم، ميلوش زيمان، حليف قوي للمصالح الروسية. وفي العام الماضي أُرغم رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيكو، على التنحي عن السلطة بعد اغتيال صحفي يحقق في قضايا فساد شبيهة بأسلوب العصابات.
ولعل التركة الشيوعية الأكثر ضرراً هي اللامبالاة بالتاريخ. فبعد الحرب، وبينما كانت ألمانيا قد تخلصت من النازية، قيل للألمان الشرقيين والمجريين والبولنديين، إنهم لا يتحملون أي مسؤولية عن الفاشية أو المحرقة اللتين صُورتا كجريمتين رأسماليتين.
ولعله ليس مفاجئاً أن ألمانيا الشرقية السابقة هي المكان، حيث حصلت حركات صديقة للفاشية، مثل حزب «البديل» الألماني على أفضل النتائج.
والمؤكد أن أوروبا الشرقية أفضل حالاً اليوم مما كانت عليه في 1989 من عدة نواح. فشعوبها أغنى بكثير، وأكثر حرية بكثير. لكن التفاؤل الذي تقاسمته في تلك الأيام الخالدة ببرلين، يبدو ساذجاً بعد مرور 30 عاماً، إذ قلّلنا من شأن عناد الثقافة التي خلقتها الشيوعية السوفييتية.


*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»