في مساء التاسع من نوفمبر عام 1989 دُمّر جدار برلين بالمطارق والعصيّ والقضبان الحديدية من الجهتين: برلين الغربية والشرقية. كانت لحظة سحرية مُفعمة بالرومانسية، وبالأحلام الوردية، وبوعود العيش بازدهارٍ وحُرية ورفاهية في ظل النظام الرأسمالي الغربي.
دُمّر الجدار شرقاً وتهافت الناس بالألوف غرباً، لا ليلغوا الحدود بين مدينتين في شعبٍ واحد فقط، بل أيضاً ليعمقوا الأزمة بين الشرق السوفييتي والغرب الرأسمالي.
كأنما سقوط الصراع الكبير الذي تجسد في الحرب الباردة بين عالمين متناقضين ما كان يُمكن، أن تكتمل دائرته إلا بسقوط الجدار الأكبر: الجدار السوفييتي نفسه بعد أزماتٍ اقتصادية وسياسية قاسية وتضعضع النظام الشيوعي، الذي أهرق دماء نحو خمسين مليون روسي.
لكن سقوط جدار برلين لم يكن الظاهرة المفككة الوحيدة للمنظومة الستالينية، بل سبقته ومهدت له بولندا والمجر. المجر التي بدأ ستارها الحديدي يهتزّ منذ 1980 مع ثورة نقابة التضامن، التي رفعت شعار الاستقلال والحرية والانفصال. وكلنا يذكر القائد الشعبي «ليش فيليلسا» وقد أجج تلك الانتفاضة عام 1980 إعلان حالة الطوارئ، والزجّ بألوف الأشخاص المنتفضين في السجون. ولا ننسى هنا الدور الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية عبر البابا البولندي يوحنا بولس الثاني... توحدت الألمانيتان إذاً. لكن السؤال الذي يُطرح بعد مرور ثمانين عاماً على هذه التجربة الفاصلة، لماذا أدى كل هذا التطلّع والهيام بالحرية في أوروبا الوسطى إلى مآلاته الراهنة، أي إلى النقيض، بروز القوميات المتطرفة المنغلقة والشعبوية والاستبدادية واستثارة العزولات الهوياتية؟ لماذا تراجعت الديمقراطية التي انتفضت من أجلها هذه الشعوب، من برلين إلى بوخارست؟ قصة ثلاثة عقود انقضت بدأت بقصة حب شغوف بالغرب وقيمه إلى قصة طلاق خائب، من أجل المبادئ الفردية، إلى مشاعر الإذلال والقهقري... والمُفارقة أن المجر وبولندا اللتين كانتا البوابتين المشرعتين لتلك الثورة، تصدرتا الردة على كل ما كافحتا من أجله. انقلابٌ دراماتيكي مليء بالألغاز والأسرار والأسباب والوقائع.
يقول العديد من الباحثين والسياسيين إن الثورة السلمية الرومانسية عام 1989 حملت بذور ما نما بعدها من قومية، أي أن جذور الأزمة الراهنة زُرعت في لحظة الانتصار.
فالتطبيع الاقتصادي لم يرافقه ازدهارٌ سيادي موازن، برغم توسع الاتحاد الأوروبي. على العكس، إن الاختلاف السياسي راح يتصاعد ويتباعد مع الوقت، سياسة مجتمع الوفر الرأسمالي الذي حلم به ثوار 1989 أدى بشكلٍ أو بآخر إلى عودة المكبوت القومي، وإعادة بناء التمايزات الهوياتية والعنصرية والطائفية والإثنية. فمنذ عام 1992 تكهّن المفكر الفرنسي «بيار هاسنر» أنه «بقدر ما تفقد الشعوب هوياتها بقدر ما تنزلق إلى صوغ هوية مُصطنعة بديلة، وبقدر ما يكون هؤلاء قريبين من جيرانهم ثقافياً، بقدر ما ينزلقون إلى عداءٍ سياسيٍّ معهم، أو بطريقة العنف لتأكيد انتماءاتهم الأحادية أو افتعال الانقسام العمودي بين نحنُ وهُم».
وليس بالصدفة أن تتصدر بولندا والمجر شعاراتٍ انفصالية، أو معاداة القومية الأوروبية المشكوك فيها. هُناك مقارباتٌ عدة لتلك الظواهر منها: أن ثورة 1989 لم يُرافقها تفتّح أفكارٍ جديدة: فهدفها لم يكن التجديد ولا التغيير وإنما التقليد، أي استنساخ النموذج الغربي من دون أسئلة أو شكوك. فأوروبا بعد سقوط الجدار البرليني لم تكن مقسمة بين ديمقراطيين وشيوعيين، بل بين مُقلِّدين ومُقلَّدين. فبعد أربعين عاماً من الشيوعية والحرمان لم تكن تُريد بُلدان أوروبا الشرقية سوى أن تكون طبيعية، أي شبيهة بجيرانها الغربيين: حرية، مساواة، اقتصاد حر...
وهذا لم يحصل تماماً، وهو ما أدى إلى شعورهم الحادّ في اللا امتلاك، وهكذا بدأ زوال الوهم الكبير عندما وجدوا أنفسهم يتامى، فالهُرجة المتهافتة من الشرقية إلى الغربية، أفرغت بلدانهم من كلّ نُخَبها، ففَرَغت من كل شيء حتى من ثقافتها... هذه الظواهر الديموغرافية، تكاد تفسر الأزمة الوجودية التي عاناها من بَقوا في بلدانهم.