يبدو لي أن العالم العربي اليوم محاصر، وقد تم خنقه بطريقة أو بأخرى من خلال مهاجمة مصالحه في أراضيه أو في الممرات البحرية، وإقحامه عنوةً وسط الحرب التجارية بين الصين وأميركا لارتباطاته التجارية بالطرفين، وارتباطه بالعملات الدولية وتداعيات الأزمة المالية الأوروبية المتوقّعة، وما سوف تسفر عنه وتأثير ذلك كله على اقتصاد المنطقة. ويتضرر العالم العربي من جعل أعالي البحار منطقة صراع وفوضى إلى جانب المنطقة ككل، والتي يتم التحكّم بها عن طريق خلق أزمات لن تتوقف وصراعات تولّد صراعات أخرى، وتصعيد حروب النفوذ في المنافذ الحيوية الرئيسية في المنطقة، وفي القرن الأفريقي والتضييق على العالم العربي اقتصادياً ومعرفياً وتكنولوجياً، والأهم من ذلك كله مواجهة أزمة تغيّر المناخ وحروب مناخية قادمة بقوة للمنطقة ستعيدها لعصور الاستعمار. والفرق هو عدم الحاجة لتواجد عسكري، ولا تملك الدول العربية المخزون الكافي من جميع النواحي لتتعافى منها في حال تكرارها وتبعاً لشدة أثرها، وتحديات مناخية ووبائية ستعيد رسم خريطة التعاون والوحدة الخليجية بالذات.
فالسياسة لا تختلف عن الاقتصاد عندما يتعلق الأمر بالعرض والطلب وإرضاء العميل، والتخطيط لمخاطر الاستثمار وبيئة الاستثمار الأنسب والأكثر ربحيةً واستقراراً على المدى الطويل، وهل تتوفر البنية التحتية والتشريعية والتنظيمية، والمواد الخام الملائمة للاستثمار وصولاً للنقطة الأهم وهي العملاء والذين يعدّون عصب الاقتصاد، فكل بضاعة العالم لا تساوي شيئاً إنْ لم يكن في الطرف الآخر مشترٍ يملك قيمة البضاعة وسوقاً للبضاعة وثقافة استهلاك تفرض إيقاع حياة وميولاً وتوجهاً معيناً!
فمن الناحية الاقتصادية والمالية ستعاني بعض دول المنطقة هبوطاً حاداً في دورة دخلها القومي والمصاريف المستقبلية للاستدامة، والبناء على ما هو موجود، وقبل ذلك تحديثه وترميمه، وكل برامج الإصلاح الاقتصادي لن تجدي نفعاً في غضون توقع أزمة مالية عالمية قادمة أو أزمات أصغر مفتعلة، وأيضاً في ظل الضغوط المتراكمة والمركبة على المنطقة للتحكم بأسعار الطاقة والسماح بالتطاول على مصادر الطاقة الأهم في العالم ودخول لاعبين جدد في هذا الإطار لا ينتمون لمنظومة الدولة بمفهومها التقليدي لجعل انسيابية الإنتاج سلاحَ ضغط على المنتج والمستهلك في آن واحد، واكتشافات جديدة كل يوم وحاجة بعض الدول لحل مشكلة النقص الحاد في واردات الطاقة لديها، وتأثّر العملات بكل هذه المنظومة وغياب السيولة المالية واستنزاف احتياطي الذهب.
وفي ما يخصّ مشاريع الإصلاح الاقتصادي والخصخصة، وطرح سندات الشركات الحكومية العملاقة للاكتتاب، فإن كل ذلك يحتاج للوحدة الخليجية، وتدوير رأس المال الخليجي داخل المنطقة، قبل الخارج، هو سند ضمان نسبي لنجاح بعض تلك العمليات، وإذا استمر الاختلال التنازلي في الموازنات العامة ونسبة الفائدة على حجم الدين العام في بعض الدول الخليجية على ما هو عليه في الوقت الحاضر فلا مفرّ من الوحدة الخليجية!
أما في ما يخصّ الناحية الاجتماعية، فهناك توجهات ومشاعر سلبية كثيرة نشأت في الفترة السابقة بين سكان بعض الدول الخليجية، وتم تجييش الشعوب بصورة لا تخدم الهدف الأمني الاستراتيجي الأسمى لمنطقة الخليج العربي وثغرة لا يستهان بها.
ولو عرّجنا إلى الأمن القومي العربي ككل، لوجدنا أن إيجاد قواعد وتواجد وتمركز عسكري في قلب العالم العربي لبعض الدول الإسلامية الكبرى التي تعتبر المنطقة جزءاً من موروثها الإمبراطوري ستكون له نتائج لا تحمد عقباها، وتهديد مباشر لميزان القوى الإقليمي، ناهيك عن غزو الأراضي السورية، والتدخل الإقليمي غير العربي في العراق وسوريا ولبنان واليمن في ظل ثورة الشارع الرافض لواقعه.
كما تبرز قضية الجماعات الإرهابية والخلايا النائمة، والتكنولوجيا الناشئة والأسلحة غير التقليدية التي تُصنّع في البيئة المحلية، وتسرّب عناصر وأفكار الجماعات الإرهابية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، وغيرها من الوسائل التي يصعب تشفير الرسائل المشفّرة في الأمور الاعتيادية فيها التي لا تمثل تهديداً وغير المثيرة للشكوك، وصعوبة إيقاف دخول غير المرغوب بهم وهم يحملون جوازات سفر رسمية غير مزورة من دول غير مشتبه بها، وأشخاص خارج نطاق الرادار الأمني، وهو تحدٍ لا تحسد عليه دول المنطقة.
وما تسمى بـ«الثورات» قد تندلع أو تخمد وتهاجم وتفكك مراكز القوى والتأثير فيها بحسابات افتراضية مزورة تُدار من الداخل أو الخارج، لندرك حجم التعقيد والتشعّب، وكل هذه الظروف الإقليمية المتغيرة والمتسارعة، ستؤدي حتماً إلى المزيد من عدم الاستقرار وهروب رؤوس الأموال من الشرق الأوسط، فهل حان الوقت لجعل القرارات الخليجية جزءًا من الحل، وليس من المشكلة لكون ما هو قادم لن يفرّق بين دولة وأخرى، والمتربصّون في داخل المنطقة، يفوق عدد المتربصّين في الخارج؟