كان إطلاق لقب (رجل التراث العربي الأول) على الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، رحمه الله، إنصافاً من «المركز العربي للإعلام» في عام 2015، وتقديراً عربياً لدوره الكبير في الحفاظ على الهوية العربية كلها، عبر تقديم نموذج رفيع الشأن وعالي السوية من رجل دولة يملك رؤية استراتيجية لوطنه ولأمته، وينفذ خطة تربوية متكاملة الأهداف والأبعاد، معتمداً على الحداثة ذاتها في التقنية والتطبيق الأكاديمي والفني، للحفاظ على الأصالة، وعلى تفاصيل الهوية الوطنية وعلى خصائصها العربية والإنسانية. لقد أتيح لي بمكرمة منه أن أكون مستشاره لسنوات خلت منذ عام 2011، وأن أتأمل -عن قرب- خصائص شخصيته القيادية، التي جعلتني أحسب منذ أول لقاء لي به أنني ألتقي حكيم الأمة، والده المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.
وأمام تعدد المهام التي بدأ بها الشيخ سلطان رحمه الله عمله الحكومي الوطني من سني شبابه الأول، تعمقت خبراته القيادية، واتسعت رؤيته، فقد حمل مسؤوليات كبيرة، وتفوق في أدائها، وهذا ما ألمح إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حين قال في رثاء شقيقه (إنه أحد رجالات الدولة الأوفياء ورمز من رموزها الوطنية) وسماه (العضد) وحين فاز سموه بلقب (رجل التراث العربي الأول) سماه المركز الإعلامي (المثال الرائع في الثقافة والقيادة، والعمل الطموح لصون الهوية الوطنية، وإعداد الأجيال).
وكنت أجد في لقاءاتنا المتعددة على الصعيد العملي، مدى اهتمام سموه بأمرين الأول هو قضية الحفاظ على التراث والهوية الوطنية، أمام عواصف العولمة التي هددت كل خصوصيات الشعوب الثقافية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي عبر ثورات الاتصال والمعلوماتية الشاسعة، وكان الهاجس العام هو حماية الخصائص والملامح الوطنية من الاندثار، ومن عدم معرفة الأجيال الشابة بتاريخها وثقافاتها المحلية والعربية أمام طغيان ثقافات مهيمنة، ولم يكن هذا الهاجس معادياً للتواصل مع حراك البشرية ولا انغلاقاً أمام حركة التاريخ الراهنة، وإنما كان عقلنة للتواصل والتمازج، وإعلاناً لخصوصية الهوية الوطنية، التي تفتح أبوابها لكل ثقافات العالم، ولكنها لا تقبل أن تُقتلع من جذورها.
وأما الاهتمام الثاني، الذي كان أوسع توضيحاً لرؤيته المستقبلية، فقد كان ميدان التعليم، وقد كتب بخط يده مذكرة في استراتيجيات التعليم تعبر عن اتساع فهمه لكون الاستثمار في الإنسان هو الهدف الأسمى للاستراتيجية التعليمية، وكان يؤكد في بيانه التعليمي على أهمية الاهتمام بالميول والقدرات الشخصية للطالب، وإبعاده عن المواد التي لا يحقق فيها تميزاً لصالح ما يمكن له فيه أن يتفوق.. وقد وجه بإقامة ندوة مهمة حول التعليم وتطويره وكانت من أهم الندوات المتخصصة التي شارك فيها كبار التربويين الأكاديميين في العالم.
وكان يحرص على اللغة العربية واعتمادها لغة أساسية في المناهج، وهذا ما ينسجم مع حرصه على الهوية الوطنية، وقد أسهم بتطوير مفاهيمها وبثها في الثقافة الراهنة، عبر إحياء كل الأنشطة التراثية، من مسابقات ورياضات تهتم بالخيل والفروسية والإبل والصقور والهجن والصيد وبالتقاليد البحرية، وكان «نادي تراث الإمارات» و«مركز سلطان بن زايد الثقافي» و«مركز زايد للأبحاث» و«القرية التراثية» ومهرجانات سويحان، والسوق التراثية، ومهرجانات الشعر والفنون الشعبية، وإصدار المجلات المختصة والكتب المعنية بالتراث، والعديد من الأنشطة التي أقامها ورعاها وتابع وقائعها، قد أحيت هذا الإرث التاريخي وبات الشباب يتعلمونه بشكل أكاديمي عبر الدورات والمؤسسات التي أنشأها سموه، ولم يشغله هذا العشق للتراث عن متابعة الحاضر والمستقبل، وعن الاهتمام بالمثاقفة العالمية الراهنة، فكانت مجلة الإمارات الثقافية تعبيراً عن هذا التواصل الفكري الأدبي المتوازن، كما كان الاهتمام بالفكر العربي وحراكه الضخم، عبر سلسلة من الكتب التي أصدرها مركز سلطان بن زايد.
والحديث يطول عن رجل كان فياضاً بالمحبة، ورحباً في رعايته الإنسانية، ولاسيما لذوي الاحتياجات عبر مؤسسات تختص بمعونة المرضى والمحتاجين وبقضايا المواطنين، وكان تواضعه الجم، يجعل أفئدة الناس تهوي إليه، وكان شديد الحرص على اللقاء بالمثقفين العرب في كل المناسبات الثقافية وفي محاورتهم والاستماع إلى رؤاهم وأفكارهم، وكانت قضايا الأمة وما حل بها من محن وكوارث لا تفارق وجدانه، ولئن كان حزننا الكبير على فجيعتنا برحيله سيبقى في قلب كل من عرفه وأحبه، فإننا ندعو الله أن يتغمده برحمته، وأن تستمر رسالته في الصعود، عبر أشقائه وأبنائه الكبار، وعبر أجيال شباب الإمارات الذين تزهو بهم الأمة كلها وتنظر بغبطة كبرى إلى ما ينجزون.