جدل كبير أثاره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد المقابلة التي خص بها صحافيي مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية.
فوفق ماكرون، فإن «حلف شمال الأطلسي» «الناتو»، بات اليوم «في حالة موت دماغي». أما في ما يتعلق بأوروبا، فإنها ما زالت تعتبر نفسها سوقاً دائماً، حسب تعبير الرئيس الفرنسي، والحال أنها ينبغي عليها أن تتصرف كتكتل سياسي من أجل الدفاع عن مصالحها. وإلى ذلك، فإن الولايات المتحدة لديها رئيس لا يتقاسم «فكرتنا» بخصوص المشروع الأوروبي، وعلى كل حال، فإن التوجه التاريخي، سواء مع ترامب أو بدونه، هو نحو تباعد استراتيجي بين الولايات المتحدة وأوروبا.
ماكرون يستند في حجاجه إلى أحداث واقعية، مثل اختيار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما العدول عن معاقبة سوريا بعد استخدامها أسلحة كيماوية، رغم الخطوط الحمر الشهيرة التي كان رسمها بنفسه، وانسحاب الجنود الأميركيين من سوريا في أكتوبر 2019، من أجل السماح للقوات التركية بمهاجمة الأكراد الذين كانوا حلفاءنا في محاربة تنظيم «داعش»، مع العلم بأن تركيا عضو في «الناتو».
والأكيد أن هذه ليست المرة الأولى التي يضع فيها رئيس فرنسي مصداقية الضمانة الأميركية تجاه أوروبا موضع شك. فديغول وميتيران وشيراك.. جميعاً، فعلوا ذلك من قبل. وتقليدياً، كانت الدبلوماسية الفرنسية دائماً، منذ الجنرال ديغول، ترغب في الحفاظ على قدر معين من الاستقلالية تجاه الولايات المتحدة: إن فرنسا حليفة قديمة للولايات المتحدة، لكن دون أن يعني ذلك اصطفافاً كاملا في صفها خلال الحرب الباردة. هذا الموقف كان ممكناً لأن فرنسا، التي تتوافر على سلاح نووي خاص بها، لم تكن تعتمد على الحماية الأميركية. ولهذا السبب استطاعت باريس الانسحاب من الهيئات العسكرية التابعة لـ«الناتو» في 1966 (قبل أن يقرر نيكولا ساركوزي الانضمام إليها مجدداً في 2009). وخلال حملته الانتخابية، كان ماكرون قد أشار إلى السياسة الديغولية- الميترانية أكثر من مرة.
وخلال منتدى باريس للسلام، في 12 نوفمبر الجاري، أعاد ماكرون التأكيد على تصريحاته السابقة، معترفاً بأنه يمكن أن يكون قد صدم البعض، ولكنه لفت إلى أنه لم يكن يقوم سوى بسرد وقائع لا يمكن لأحد إنكارها. غير أن الشدة التي كان يتحدث بها ماكرون هي التي فاجأت البعض، والحال أنه منذ عامين ونصف العام وماكرون يسعى للحفاظ على أفضل العلاقات مع ترامب.
بيد أن ترامب نفسه أعلن خلال حملته الانتخابية أن «الناتو» بات شيئاً من الماضي، وأنه يكلّف الولايات المتحدة غالياً، وأنه عليها أولاً وقبل كل شيء فك الارتباط مع تحالفات أصبحت مزعجة ومكلفة. لكنه حتى الآن، لم يستطع وضع سياسته بهذا الشأن موضع التنفيذ لأنه مُنع من ذلك من قبل «الدولة العميقة» الأميركية، لاسيما المؤسسات الأمنية والمركب العسكري الصناعي. فهذا الأخير يعتبر أن «الناتو» لا يكلّف الكثير ويسمح بالإبقاء على البلدان الأوروبية في حالة اعتماد على الولايات المتحدة. كما يسمح بالحفاظ على حجم مهم من مبيعات الأسلحة الأميركية للبلدان الأوروبية.
وقد عبّرت البلدان الأوروبية، من جانبها، وفي المقدمة منها ألمانيا بقيادة ميركل، عن تعلّقها بـ«الناتو». وهي في الواقع معتادة على الاعتماد على الولايات المتحدة، وإنْ كان التحدي الاستراتيجي الروسي لا علاقة له اليوم بما كان عليه التهديد السوفييتي إبان الحرب الباردة. فاليوم، تبلغ النفقات العسكرية الروسية 60 مليار دولار، في حين تبلغ النفقات العسكرية للبلدان الأوروبية التابعة لـ«الناتو» 240 مليار دولار. وبالتالي، فإنه لا يوجد، موضوعياً، أي تهديد عسكري روسي. لكن ثقل العادة وحقيقة أن النخب الاستراتيجية الأوروبية مدرَّبة في جزء كبير منها في الولايات المتحدة، يفسّران خوف معظم الأوروبيين من التغيير.
وخلاصة القول هي أن ماكرون أراد إحداث صدمة نفسية قبل قمة «الناتو» المقررة مطلع ديسمبر المقبل. وهو يرى أنه ليس لديه ما يخسره، لأن الجمود وعدم فعل أي شيء هو الخطر الأكبر، ويأمل أن يفتح الأوروبيون أعينهم ويكتشفوا الواقع: أن الولايات المتحدة لم تعد حامية أوروبا كما كانت خلال الحرب الباردة. واقع لا ينبغي أن يخيف أوروبا، وإنما ينبغي أن يجعلها تعي مسؤوليتها.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس