من الصعب العثور على قاسم مشترك بين الانتفاضات الاحتجاجية التي تعرفها مناطق عديدة من العالم، فلا سبيل للنظر إليها بمنطق التمرد على الأنظمة السلطوية، وإن كانت في بعض الحالات تقف في مواجهة أنظمة استبدادية، كما لا يمكن تصنيفها في خانة الحركات الاجتماعية المطلبية، وإن كانت ترفع في بعض الساحات مطالب من هذا القبيل، وليس من المستساغ إطلاق عبارة ثورات عليها كما هو الشأن في الأدبيات العربية الرائجة.
لقد تساءل أحد السياسيين الفرنسيين المرموقين: هل أصبحت الشعوب عصية على الحكم حتى في البلدان الديمقراطية العريقة التي لا تعرف أزمات الشرعية السياسية؟ وماذا لو تصادمت الشرعية الانتخابية بشرعية التمرد والعصيان، كما يحدث حاليا في العديد من أنحاء العالم؟
لا فائدة من التذكير بالعناوين الكثيرة التي صدرت في السنتين الأخيرتين حول أزمة الديمقراطية، إلى حد ذهاب البعض إلى أنها استنفدت أغراضها ولم تعد صالحة لطبيعة المجتمعات الراهنة، في حين طالب آخرون بتجديد الأشكال التمثيلية والتنظيمية للديمقراطية للوقوف أمام المنعرج الخطير الذي تشهده العديد من الديمقراطيات في العالم بانجرافها نحو نمط من الديكتاتوريات الانتخابية المنفصمة عن القيم الليبرالية الإنسانية التي أطّرت تاريخياً الممارسات الديمقراطية.
الإشكال الذي يبدو لنا أساسياً هنا هو التفكير في طبيعة المجتمع السياسي، في علاقته بسياقات وآليات التمثيل والمشاركة التي بلورها الفكر الديمقراطي الحديث. في هذا المجال يتعين التمييز بين ثلاث تحولات كبرى عرفتها المجتمعات الحديثة كان لها التأثير الحاسم على طبيعة التصورات والممارسات الديمقراطية.
التحول الأول هو انبثاق مفهوم «المجتمع المدني» civil society في إطار الثورة الصناعية ونظام قسمة العمل الذي ولّدته، بما يعنيه هذا المفهوم من قيام منظومة تضامنية مصلحية تتشكل في طبقات وأصناف منظمة كانت هي القاعدة المكينة سابقاً للمنظومة التمثيلية الإجرائية للديمقراطيات التعددية.
أما التحول الثاني فهو انبثاق مفهوم «الجماهير» masses الذي برز في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، ويعني الكتل العريضة التي لا وجه لها ولا قسمات، أي الحشود المعلبة التي لا هويات لها ولا وعي والتي هي قاعدة الأنظمة الاستبدادية من نازية وفاشستية وشيوعية كما درستها الفيلسوفة «حنة ارندت» ورأت أنها تعبّر عن ضياع العالم المشترك في أبعاده القيمية الإنسانية وانهيار مفهوم السياسة من حيث هي عيش جماعي منظّم ورابطة أخلاقية عضوية. ولقد عبر أوانها الفيلسوف الإسباني «خوسيه اورتيغا غاسي» عن هذه الأزمة في كتاب شهير بعنوان «ثورة الجماهير» (صدر سنة 1930) اعتبر فيه أن المنظومة الليبرالية المعاصرة أنتجت نمطاً من البشر أطلق عليه «الإنسان الجماهيري»، وهو متوحش من الداخل، منفصل عن الماضي ورافض الانقياد لأي سلطة عليا مفارقة وأي حقيقة مطلقة، بما يفضي إلى استبداد هذا المجموع العددي الواسع على النخب المثقفة القادرة وحدها على الوصول إلى حقائق الأشياء.
الفرق إذن جلي بين مفهوم المجتمع المدني ومقولة الجماهير التي تستخدم غالباً لتبرير التدبير السلطوي الأحادي للشأن العام، في حين تحيل عبارة المجتمع المدني إلى التعددية الاجتماعية التي تقتضي التنظيم والتمثيل.
أما التحول الثالث فيتعلق بالعودة الحالية إلى مفهوم المجموعة communitas أي الهوية العضوية التي يطلق عليها في الأدبيات السياسية الرائجة حالياً مقولة الشعب بالمعنى القومي الأثني. لا يتعلق الأمر بعودة حقيقية إلى هذا المفهوم الذي تبلور في سياق يشكل نموذج الدولة القومية في القرن التاسع عشر، وإنما انحسار نموذج الدولة القومية نفسه الذي فرض إعادة فتح سؤال السلطة المكونة للجسم الاجتماعي المشترك. فما دامت الدولة القومية السيادية في أصلها تمثل تعبيراً عن الانتقال من الجمهور المشتت إلى الحالة التعاقدية المنظمة، ومن هنا تمثيلها للرابطة الجماعية المشتركة، فإن المفهوم السائد في الخطاب الشعبوي الراهن هو الاستناد إلى الرابطة العضوية الأصلية المفترضة (التي هي بناء أسطوري محض) في مقابل النظم التمثيلية والمؤسسية الليبرالية التي هي الإطار النظري والمعياري لفكرة الدولة القومية المركزية.
لقد لاحظ الفيلسوف الإيطالي «روبرتو سبوزيتو» أن مقولة المجموعة في دلالتها السياسية الحديثة قامت على غياب الأصل الجماعي المفترض الذي يعرض دوماً الجسم الاجتماعي لمخاطر التحلل والاستلاب، ومن هنا دور الدولة القومية في تأمين الجسم الاجتماعي وتحصينه باعتبار أنما يجمع في الحقيقة أعضاء النسيج الاجتماعي ليس المشتركات الاثنية أو الثقافية المخترعة غالباً وإنما هذا النقص الأصلي الذي تعوضه البنيات المؤسسية للدولة.
المشكل اليوم الذي تواجهه المجتمعات المعاصرة هو تراجع آليات التحصين والتأمين في مواجهة الطفرة الديموغرافية الهائلة التي توشك أن تلغي فاعلية كل النظم المؤسسية التي وُضعت لضبط تنقل البشر وتواصلهم. ومن هنا التحدي الكبير المطروح على الآليات الديمقراطية في رهاناتها التمثيلية والتنظيمية، وليست الشعبويات الصاعدة في أيامنا سوى تعبير عن هذه الأزمة العميقة.