فتح الانسحاب المفاجئ للقوات الأميركية من شمال سوريا الطريق أمام تركيا، الدولة العضو بحلف «الناتو»، لشن هجماتها عبر الحدود، وهو ما تم بالفعل. وبمجرد ما تم التدخل العسكري، احتجت أوروبا من خلال تصريحات رؤسائها ومؤسساتها الرسمية، إلا أنه مباشرة مع هاته التصريحات، حذّر الرئيس التركي دول الجوار الأوروبية من آلاف المهاجرين الذين يمكن أن يعبروا حدودها مهاجرين سريين ودواعش، ما جعل الأوروبيين في دهشة. ثم بعد ذلك وبموجب الاتفاق الذي عُقد مع روسيا، يفترض أن تجوب دوريات مشتركة المنطقة الآمنة المتفق عليها، على جانبي المنطقة التي تسيطر عليها تركيا والمقاتلين الموالين لها. وقد بدأت الدوريات التركية والروسية بالفعل تجوب «المنطقة الآمنة»، كما تسميها تركيا، في شمال شرق سوريا، وأُقرت هذه الخطة التركية بهدف إعادة توطين اللاجئين السوريين في منطقة آمنة بطول الحدود التركية السورية، وإخلائها من المقاتلين الأكراد الذين تعتبرهم تركيا «إرهابيين». وقد تبدو هذه الفكرة سهلة نظريا. لكن إذا تصفحنا كتب التاريخ من أمثلة صراعات البوسنة ورواندا والعراق وسريلانكا، فإن خلق مناطق آمنة أكثر صعوبة مما يبدو.
المهم من هذا كله أن فرنسا وأوروبا لم تُستشارا في الانسحاب الأميركي من المنطقة، ولا في الورقة الخضراء التي أعطيت للتدخل العسكري التركي في سوريا، ولا في التحالف الروسي التركي، بمعنى أن قواعد النظام الأوروبي المتوسطي الأطلسي تغيرت عن بكرة أبيها، ونفهم ذلك من خلال تصريح الرئيس الفرنسي عندما تحدث عن «الموت السريري» للحلف، معلقاً على العملية العسكرية التركية في شمال سوريا. وقال الرئيس الفرنسي: «نشهد عدواناً من شريك آخر في الحلف، تركيا، في منطقةٍ مصالحُنا فيها على المحك، من دون تنسيق». وتساءل بصورة خاصة حول مصير المادة الخامسة من معاهدة الحلف التي تنص على تضامن عسكري بين أعضائه في حال تعرض أحدهم لهجوم، وتساءل: «ماذا سيحل بالمادة الخامسة غداً إذا قرر نظام بشار الأسد الرد على تركيا، هل سنتدخل؟ هذا سؤال حقيقي». ثم قال: «الحلف الأطلسي كنظام لا يضبط أعضاءه. وانطلاقاً من اللحظة التي يشعر فيها أحد الأعضاء أن من حقه المضي في طريقه، فهو يقوم بذلك. وهذا ما حصل».
جاء هذا التصريح الرسمي الفرنسي موازاة مع تحولات إقليمية كبيرة جداً، وبالأخص مع الدور التركي الإيراني الروسي في المنطقة، كما جاء مع انسحاب الحليف التقليدي الأميركي من شمال سوريا والذي سمح بالتوغل التركي، والكل يعلم أن العقوبات الأميركية التي طالت بعض المسؤولين الأتراك بسبب هذا التوغل، ما هي إلا عقوبات شكلية، وكل الاستراتيجيين يفهمون أن هناك توافقاً مسبقاً وتحالفات جديدة في نظام عالمي جديد جعلت أوروبا في صف المتفرجين المدافعين عن النفس.. فبمجرد ما انسحبت أميركا من شمال سوريا، قُتل زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي.
كما جاء تصريح الرئيس الفرنسي في عز الاحتفال بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، الجدار الذي جاء تدميره في نوفمبر 1989 تمهيداً لتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الشيوعية.
كما أن هناك معطى آخر يتصل بالأوروبيين وهو دفاعهم بل وحنينهم إلى النظام العالمي القديم المجسد في التوازن الأوبامي في السياسة الخارجية الأميركية. ويمكن أن يتجلى لنا هذا الحنين من خلال تصريحات شتاينماير الرئيس الألماني الأخيرة، رغم منصبه الفخري، فمنذ أيام خلال خطابه بمناسبة الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، توجه برسالة إلى الإدارة الأميركية الحالية، داعياً إياها لإظهار «الاحترام» لحلفائها والتخلي عما وصفه بـ«الأنانية القومية». وأمام بوابة براندبورغ التي رمزت حتى عام 1989 لـ«انقسام ألمانيا»، أشار شتاينماير في خطابه إلى الدور الرئيسي للولايات المتحدة، «الذراع القوية للغرب»، في انهيار الستار الحديدي قبل ثلاثة عقود. وقال: «نحن الألمان، ندين بالكثير لأميركا، بوصفها شريكاً من أجل الديمقراطية والحرية، ضد الأنانية الوطنية. هذا ما آمله أيضاً في المستقبل»، في إشارة إلى الإدارة الحالية في البيت الأبيض.