لقد أولى المسلمون قضية تجديد الخطاب الإسلامي أهمية كبيرة منذ بداية التخلف الفكري الذي أصابهم وما نشأ عنه من تفريق لحمة المسلمين وتمزيق وحدتهم، فقامت محاولات إصلاحية عديدة في العالم الإسلامي اختلفت في تشخيص الوضع وفي الحلول. فكان منها التقليدي الجامد، والإصلاحي المتنور، والليبرالي والاشتراكي والمتغرب وغير ذلك. وما زال النقاش مستمراً لحد اليوم في تجديد الخطاب وإنجاح الإصلاح. وبعد تمظهر ظاهرة التطرف في مشروع الجماعات والأحزاب «الدينية» لتصل إلى الضلوع في عمليات إرهابية في عدد من العواصم العالمية، ارتفعت عدة أصوات تنادي بضرورة تجديد الخطاب الديني ومراجعة الموروث الفقهي الذي أصبح عاجزاً على تقديم الحلول، بل وفي بعض الأحيان «يؤصل» لحالة الفوضى والإجرام.
وبعد أن حدثت حركة الهجرة البشرية من عمال وكفاءات علمية من العالم الإسلامي إلى العالم الغربي حيث أنقلت معها الثقافات والعادات، نتج عنها إشكالات «مفاهيمية» مرة بسبب «الخصوصيات الثقافية» ومرة بسبب النتائج الطبيعية لـ«العولمة» الذي حدد أشكالاً جديدة في التعامل مع الآخر بين «الإكراهات المحلية» و«الأبعاد الكونية» منها مفهوم «الأقليات» و«الإدماج» و«المواطنة» و«العيش المشترك» و«التنوع الثقافي» وغيرها. إن ظهور هذه المفاهيم مرتبط بنقاش مجتمعي بعد أن أصبحت المجتمعات المسلمة جزءاً لا يتجزأ من النسيج المجتمعي والثقافي والديني في دولها.
وحيث إن المجتمعات المسلمة مكون أصيل من المكونات المجتمعية لدولها، وكونها الواجهة الأولى التي تنطبع عليها المواقف الغربية في علاقتها مع الإسلام كقوة سياسية ومجتمعية واقتصادية، وحيث إن تجديد الخطاب الإسلامي قد انطلق في كثير من الأحيان من قبل النخب الفكرية المسلمة التي احتكت بالفكر الغربي أو بالمجتمعات الغربية، وتولد لديها ضرورة تجديد الخطاب الإسلامي وأنسنة مضامينه الثقافية لتحقيق البناء الحضاري العالمي بالانفتاح على النماذج الحضارية والأنساق الثقافية المختلفة دون تفريط في أصالتها ومرتكزات تراثها وأسس هويتها، فإن الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى نقل النقاش مع الغرب بمقاربات حداثية في قضايا الحوار والعيش المشترك والتنوع الثقافي ودور الشباب والمواطنة، وغير ذلك من الكفاءات العلمية للمجتمعات المسلمة إلى محيطها. ومثل هذه النقلة هي الكفيلة بتجديد النظر في قضية الخطاب بين الخصوصية والكونية. وسمعنا كثيراً من المسلمين متشبسين بخصوصيتهم وكأن حضارتهم خاصة بهم فقط دون أن يفطنوا إلى أن وظيفتهم في الكون هي الإشهاد على العالمين، وهي ما يحقق لهم الكونية التي أتت بها الرسالة الإسلامية الخالدة.
والخطاب الثقافي الفكري الجديد/ الحديث لا بد وأن يحاكي القضايا الجوهرية في الثقافة العربية وتراثها الأصيل بكل تنويعاته من تراكمات فقهية وإنتاجات فكرية ومجريات تاريخية، ليسهل الانتقال من التنظير الفكري ومثالية «النموذج» العربي واستعلاء عنصره البشري على غيره إلى المشاركة في الحراك الفكري والثقافي الإنساني العالمي، دون الفصل عن سياقه الاجتماعي والسياسي والتاريخي.
الخطاب الثقافي الفكري الجديد في المجتمعات المسلمة هو مشروع اجتماعي وعقلاني قابل أن يجادل بارتياح المفاهيم الجديدة كالحداثة والعلمانية والمواطنة والرقمنة وقضايا البيئة والديموقراطية وحقوق الإنسان، ويساهم في تجسير الهوة بين مختلف المنظومات الفكرية والأخلاقية، في حين خندق منظرو «التوظيف المصلحي للإسلام» الخطاب الثقافي في أيديولوجية «حتمية الصراع» وإعلان الحرب مع المخالف مع الآخر.
الدعوة لخطاب ثقافي فكري جديد تعني المساهمة في الإصلاح المجتمعي الهادئ بعيداً عن خطب «الثورية» و«الاستعلائية»، ذلك لأن هذا الخطاب مؤسس على إعمال العقل وتحرير المنهج ووضوح الرؤية، وقائم على الثوابت قطعية الدلالة والثبوت واحترام السنن الطبيعية، دون السقوط في المثاليات المغالية المفرطة والازدواجية المرهقة، التي لم تستوعب ماضيها ناهيك عن ماضي الأقوام الآخرين، ليستغل فيها عناصر المقاربة والالتقاء لتكون قاعدة للتدافع والتفاعل بين حضارتين وموروثين إنسانيين يفيدان من بعضهما، ويعملان على استشراف جماعي لمستقبل مشترك آمن.