قريباً سوف تستكمل دورة اكتتاب شركة «أرمكو» السعودية لتطرح أسهمها للتداول محلياً وخارجياً بعد أكبر عملية اكتتاب شهدها التاريخ الحديث وبعد تنافس كبير بين أهم بورصات العالم لاستقطاب أسهم الشركة، قابله تنافس أشد على عملية الاكتتاب التي غطيت بالكامل في أول خمسة أيام باكتتاب حجمه 19.4 مليار دولار وبعدد 1.8 مليون مكتتب، ارتفع إلى أكثر من 2.6 مليون لاحقاً، منها 58.3% نصيب المؤسسات.
لقد استحوذت عملية الاكتتاب على اهتمامات أسواق المال والمستثمرين في أرجاء العالم أجمع منذ الإعلان عن طرح جزء من أسهم الشركة قبل أكثر من عامين وأثيرت ضجة مالية لم تهدأ بعد، وذلك بسبب حجم «أرامكو» باعتبارها أكبر شركة للنفط في العالم، وكذلك موقع السعودية باعتبارها أكبر مصدّر للنفط، إضافة إلى امتلاكها ثاني أكبر احتياطي عالمي وتحقيقها أكبر نسبة أرباح من بين أكبر الشركات العالمية.
ورغم بعض محاولات التقليل من شأن عملية الاكتتاب، فإن مجمع المال والأعمال الدولي يعي جيداً أهمية هذه الخطوة، خصوصاً وأن الشركة ضمنت مسبقاً توزيع نسبة ثابتة تقدر بـ5% بمبلغ 75 مليار دولار في السنوات الخمس الأولى، وهي ضمانة لم يسبق لأي مؤسسة مماثلة تقديمها للمستثمرين.
والحال أن طرح جزء من ملكية هذه الشركة العملاقة للتداول يؤشر لحدوث تغيرات جذرية في صناعة النفط الخليجية والذي سيؤدي إلى تغيير طبيعة ملكية هذه الصناعة الحيوية ودورها التنموي في المستقبل، حيث يمكن التطرق لبعض هذه التغيرات الاستراتيجية. فمع اكتتاب أرامكو يكون قطاع النفط الخليجي قد دخل مرحلة جديدة ستعاد من خلالها هيكلته ليتحول تدريجياً إلى ملكية مشتركة من خلال الأسهم، وذلك بعد سبعة عقود من ملكية كاملة للدولة، حيث كان القطاع الخاص الخليجي يسعى دوماً لفتح المجال له للمساهمة في تنمية قطاع النفط والاستثمار فيه.
ويعد ذلك تحولا استراتيجياً مهماً للغاية سعى إليه منذ البداية مؤسس المملكة، الملك عبدالعزيز رحمه الله، لكن تلك الخطوة لم تستمر بسبب تردد القطاع الخاص في حينه والذي كانت الصورة ضبابية بالنسبة له، إضافة لعدم وجود وعي استثماري بعيد المدى لدى المستثمرين، مما أدى لمنح عقود امتياز للشركات الأجنبية التي تحولت فيما بعد إلى عقود شراكة، بسبب عدم توفر الأموال اللازمة لدى حكومات المنطقة.
وبالإضافة للمؤسسات، فإن القطاع الخاص وأي مواطن سعودي أو خليجي أو من المقيمين في السعودية من الجنسيات الأخرى، يمكن أن يعتبر نفسه مساهماً في أكبر شركة نفط في العالم متى ما قرر شراء أسهمها.
التحول الاستراتيجي الآخر، هو خضوع حسابات شركات النفط في المنطقة ولأول مرة للتدقيق العام الشفاف والواضح والعلني الوارد في تقارير مدققي الحسابات، ما سيعزز الثقة في أعمال هذه الشركات ويعمق بدوره الثقة بين المالك الرئيسي (ممثلا في الحكومة) والقطاع الخاص ويؤدي إلى زيادة تعاونهما الاقتصادي والاستثماري.
وفي نفس الوقت، فإن وجود الوضوح والشفافية سينعكس على أداء الشركة، والتي ستشهد نقلة نوعية في الإدارة لتنتقل من إدارة حكومية خالصة إلى إدارة مشتركة بمساهمة القطاع الخاص الأكثر مهنية وفعالية، مما سيؤدي إلى تقليص النفقات غير الضررية وزيادة الإنتاجية وارتفاع الأرباح.
وفي الجانب الاقتصادي، فإن الأموال المجمعة من عملية الاكتتاب ستضخ من جديد في شرايين الاقتصاد المحلي لترى النور الكثير من المشاريع الكبيرة في القطاعات غير النفطية، وبالأخص في التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة، مما يعني المزيد من التنوع الاقتصادي والنمو المتسارع في القطاع غير النفطي للتحضير لفترة ما بعد النفط، مع توفير الكثير من فرص العمل وتحفيز النمو وإعادة هيكلة الاقتصاد المحلي، وهي إنجازات يتوقع أن تشكل تحولا جذرياً وهيكلياً في الاقتصادات الخليجية.