كل من اعتقدَ بأن الحروب على العراق انتهت واهِم، كذلك واهِمٌ كل من يعتقدُ بأن العراق انتهى. يكشف ذلك معرض «مسرح العمليات الحربية: حروب الخليج (1990-2011)». افتتح المعرض هذا الشهر في «متحف الفن الحديث» بنيويورك، والذي يستمر حتى شهر مارس 2020، ويضم 300 عمل لثمانين فناناً، معظمهم عراقيون، يعيش بعضهم داخل الوطن وبعضهم الآخر في الشتات، إضافة إلى أعمال فنانين عرب وغربيين ناهضوا غزو العراق.
والفن من شؤون القلب المعقدة، كذلك حب الوطن. ويجمع كلاهما بين أصغر فناني العراق المعروفين عالمياً، علي عيال (مولود عام 1994)، وأكبرهم عالمية وعمراً، ضياء العزاوي (مولود عام 1939). وترسم أعمال كليهما في معرض «متحف الفن الحديث» الفارق بين أجيال فناني العراق الملحميين، جواد سليم وإسماعيل فتاح ورافع الناصري والعزاوي نفسه.. وفناني الأجيال الجديدة متعددة الوسائط، مثل علي عيال. وأكبر الأعمال المعروضة جدارية العزاوي، وعنوانها «المهمة التدمير» تجمع بين تفكيكية وتكعيبية «غورنيكا» بيكاسو، والخط العربي. فيما يبدع علي عيال في جداريته تكوينات من أغطية مخدات حقيقية تُعبّر عن الأحلام والكوابيس.
وتجمع الوطنية العراقية بين فنانتين من جيلين مختلفين، إحداهما عفيفه لعيبي، التي يستخدمُ المعرض ملصقاً يضم لوحتها المشهورة التي تصور عراقية تفرد ذراعيها لحماية جدارية آشورية، فتُقصف كلاهما برصاصات تصيب إحداها قلب المرأة. والأخرى هي الفنانة هناء مال الله، من خلال جداريتها المصنوعة من 400 صورة فوتوغرافية لضحايا «ملجأ العامرية» الذين استهدفتهم عام 1991 قاصفة أميركية تخترق قنابلها الجدران السميكة. ملامح الضحايا محروقة في صور الجدارية، والتي تحمل كل واحدة منها عنوان «لا صورة له/لها».
«هؤلاء الفنانين يرفضون نسيان حرب العراق»، عنوان مفارق لتقرير مسهب في «نيويورك تايمز» عن المعرض. فكيف ينسون حرباً شَردّتهم إلى أقاصي الدنيا، وحرمت الباقين منهم في الداخل الأصباغ والفرش، وأقمشة الرسم بدعوى استخدامها في صنع الأسلحة الكيماوية. وفيما حدثت تغييرات كبرى في أوضاع الفنانين العرب وأسواق الفن العربية، حَرّمت سلطة طائفية أعمال الفنانين العراقيين. ولم تفاجئ الانتفاضة الحالية الفنانين العراقيين، بل هم الذين فاجؤوها، فقد أبدع ضياء العزاوي سلسلة ملصقات، بعضها من تصميمه بالكامل، وأخرى استخدمت أعمال فنانين عراقيين بارزين، مثل جواد سليم، وسعد شاكر، ومحمود العبيدي، أرفقها بأبيات للشاعر الجواهري وآخرين. واثنان من ملصقاته ملطخة بدماء تنزفها أصابع مقطّعة تسحرنا تلاوينها الحمراء فلا نشيح العين عنها إلا وقلوبنا مجرّحة. ووسائل الاتصال الاجتماعي مرسم مفتوح يعرض فيه فيصل لعيبي مشاريع لوحات جدارية، ونموذج نصب الشهيد بجناحي حمامة، ورأس منكس.
وسلسلة كقلادة كبيرة تتوسطها عبارة CNN أشار فيها الفنان السويسري «توماس هيتشرون» إلى دور هذه الفضائية، التي صنعتها حرب الخليج، وصنعت هي حرب الخليج، وجعلتها أول حرب تلفزيونية. ومن التكوينات البصرية التي تجمع بين أعمال فنون الرسم والنحت والفيديو، تكوين فيديو يظهر فيه شخص يغطي وجهه بصورة صدام حسين، الرسالة التي يتضمنها التكوين تقول إن شخصية صدام حسين الطاغية العنيفة غطّت على الأحداث عبر ثلاثين عاماً.
وكشفت انتفاضة الفنانين العراقيين المغتربين وأشقائهم في الداخل أن العراق لم ينتهِ، ليس بفضل سلطة تحكم البلد، بل على الضد من سلطة ترأسها شخصيات طائفية تحمل جنسيات أجنبية، كثير منهم ينهبون أموالا طائلة بجشع قراصنة لا يرحمون. والمعرض مهرجان عالمي ضخم يعرض يومياً أفلاماً لمخرجين، بينهم عراقيون مثل: سنان أنطون، وعُدي رشيد، وقتيبة الجنابي. وقد يعزز توقيت هذا المعرض نظرية المؤامرة، وما يُشاع من أن شباب الانتفاضة المهذبين المنضبطين أعدّتهم دوائر الغرب، خاصة بريطانيا! وهذه دعاوى حمقاء تجهل أن بلاد ما بين النهرين، بلاد ما بين الأمم، أبدعت عبر التاريخ حضارات وعقائد وفلسفات جمعت الأمم على امتداد طريق الحرير.