من نافلة القول إن قديم الظواهر الاجتماعية لا يموت كاملاً، وإن التوجه إلى الحداثة لا يعني بالضرورة السير إلى الإمام في خط مستقيم، وأن المجتمعات الإنسانية لا تعدو كونها وثيقة من جلد رقيق يقرأ الجديد فيها فوق القديم بوضوح وجلاء. فالطبيعة «الأركيولوجية» للمجتمع، بحسب تصورات الجيولوجيين، تجعل الجديد ينسلخ من ظهر القديم دون أن يزيحه تماماً، بل إن عملية الانسلاخ هذه تبدو صعبة، ولذا لا يمكن أن يتجاهل التحديثيون وجود منطقة وسطى بين ما هو تقليدي وما هو عصري، يطلق عليها مفهوم مستعار من العلوم الطبيعية هو «التحول»، ما يعني في هذا المقام، التفاعل، الذي يصل في بعض المجتمعات إلى حد التصارع، بين القديم والحديث، وفي مجتمعات أخرى يتعايش الاثنان دون أن يسبب ذلك أي اهتزاز لأركانها، نظراً لانتشار قيم التسامح والاستعداد للانفتاح على الآخر، فضلاً عن الدور الذي تلعبه النخب في إدخال مظاهر التحديث إلى مختلف جوانب الحياة بطريقة متدرجة وملائمة، لكن الواعين منها يدركون أن المسارعة في اتجاه الجديد لا تعني دهس الموروث أو تجنيبه.
ويبدو الانشغال بالتراث أو الإيجابي من الموروث الشعبي مهماً، في لحظة زمنية تتجه فيها دولة الإمارات العربية المتحدة نحو تحديث مختلف أوجه الحياة، في مسار انتقالها من «المَحلْ إلى الغنى»، وهو أمر نص عليه دستورها أيضاً، حيث تضمنت مواده نصوصاً صريحة، أكدت مكانة وقيمة اللغة العربية، وأهمية تمسك المجتمع بتاريخه وارتباطه الوثيق بالعالم العربي، وكيفية الاستفادة من تجربته الذاتية، عبر تعزيز القيم الإيجابية التي تكمن فيها.
وقد كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مهتماً بهذه المسألة إلى أبعد حدٍ، حيث كان يقول دوماً: «إنني أعشق الصحراء، وكلما أحسست ببعض التعب ذهبت إليها لأسترد نشاطي وحيويتي حيث ألتقي بإخواني البدو الذين أحبهم من كل قلبي، لأن أفكارهم ما زالت صافية ونقية. إنهم ما زالوا يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم التي تنبع من الأصالة العربية وتعاليم ديننا الحنيف. وأنا أشجعهم على التمسك بهذه العادات، لتظل أفكارهم صافية ونقية».
وكما كان الشيخ زايد يؤمن بأن الأجيال الحالية في حاجة ماسة إلى معرفة ما عاناه جيل الآباء والأجداد من أنواع الصعاب في سبيل توفير سبل الحياة الكريمة لأبنائهم وأحفادهم في ظل ظروف صعبة واجهوها، وهي مسألة لا يمكن الوقوف عليها دون الإلمام بالموروث الشعبي في شقيه المادي والمعنوي، نظراً لعدة اعتبارات هي:
أولاً: يعد الاهتمام بالموروث الشعبي جزءاً من الرؤية التنموية الشاملة، والتي لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية فقط، وإنما تمتد إلى العديد من الجوانب الأخرى، الثقافية والتراثية والبيئية وغيرها.
ثانياً: يسهم الاهتمام بالموروث الشعبي في تعزيز الهوية الوطنية ضد أي تهديدات أو مخاطر تسعى إلى النيل منها، في ظل عولمة جارفة للخصوصيات والثقافات الفرعية.
ثالثاً: يمثل الموروث الشعبي مصدر إلهام للأجيال الحاضرة وفي المستقبل، بما فيه من مظاهر للكفاح والاستفادة من قيم إيجابية من قبيل التضامن والتكافل الاجتماعيين، ومساعدة المحتاج، والتماسك الاجتماعي، والعطاء، والشجاعة، وغيرها.
رابعاً: يقوي الإيجابي من الموروث الشعبي وحدة المجتمع وتماسكه، لأنه يعزز ما يجمع أبناء الشعب الواحد من فهم مشترك يصنعه «العقل الجمعي» و«النفسية العامة» والميل إلى ما يجمع ويؤلف من عادات وتقاليد واحدة.
خامساً: لا يعني التمسك بالموروث الانكفاء على الذات أو معارضة الحداثة، وإنما الهدف من هذا تحقيق المزج بين الأصالة والمعاصرة، والحفاظ على الخصوصيات الحضارية والثقافية مع الانفتاح على العالم الخارجي والتفاعل الخلاق والإيجابي مع ثقافاته وأفكاره.